الأحد، 27 ديسمبر 2009

الجمعة، 25 ديسمبر 2009

الرجـل القيمـة أو القيمـة رجـلاً

هاني فحص
... بعد صلاة المغرب، في يوم صيفي حار، انتظرته مع صديقي المناضل الجزائري الكبير العباسي موفداً من الرئيس أحمد بن بله، في حديقة منزله الصغيرة في قم.. كان هناك شخص يصلي في طرف الحديقة بلباس منزلي شديد التواضع والبساطة، وليس عليه شيء يدل عليه. انتهى من صلاته وتقدم نحونا مسلماً... قفز العباسي من مكانه ليسلم وشرع في البكاء مندهشاً بهذه البساطة وهذا الترفع عن الدنيا... وعاد بالذكرى الى أيام النضال الجزائري الأولى.. وحكى لنا تفاصيل مدهشة وتأسفنا.. ومرة زاره عصر يوم رمضاني طبيبه الدكتور قارون الذي كان يعالجه من آثار التعذيب في سجن الشاه، واقترب موعد الإفطار، فاستأذن الطبيب ليخرج، فألح عليه أن يتناول الإفطار معه. وافق قارون وسأل: وما إفطارنا؟ قال الشيخ: زوجتي ليست في المنزل منذ أيام، وأمس حمست بالدهن، بعضاً من بيض الدجاج لإفطاري، كان كثيراً وبقي منه شيء وضعته في الثلاجة، والآن نستخرجه ونسخنه ونفطر.. فصرخ الطبيب: لا.. ولا أريد أن أبحث عمن يعشيني بعد الإفطار معك! وخرج. وقيل لي إن المرحوم السيد محمد حسين بهشتي كان مرة في زيارته وجاء وقت الغداء، فسأله عما يمكن أن يتناوله معه غداء، فقال: لديّ كمية من المخيض نبل بها خبزاً بائتاً.. فاعتذر السيد وخرج ضاحكا باحثا عن عشاء أقل تقشفا!
ومرة كان في زيارته أحد الوزراء الخدماتيين.. ومعه حقيبة ضخمة.. قال له الشيخ: ما هذا؟ قال الوزير: هذه رسائل الشكر لي من الشعب على إنجازاتي.. كان الشيخ قد تناوله بالاسم وعلناً ناقداً تقصيره في شؤون الإسكان.. أجابه الشيخ: ولكن رسائل الاحتجاج الشعبي والشكوى عليك حجمها عندي أكبر بكثير من حقيبتك.. والحل هو ألا تأتيني رسائل الشكوى. بعد هذا اليوم، وألا تبقى أنت بحاجة الى زيارتي.
ومرة.. كنا في زيارته وكان يخطب في وفد كبير من قوات الحرس الثوري القادمة من مدينة سمنان.. قرّعهم بشدة على تصرفاتهم الأمنية غير الدقيقة وتغطيتهم لها بالشرع.. وقال: يمر بكم من يحمل قارورة فيها سائل ملون، أحمر مثلا أو أبيض، وتعتقلونه على أساس أنه يحمل مسكرات، ويتبين العكس، فتتركونه وهو شاعر بالمهانة. أما الشرع فإنه لا يجيز لكم مثل هذا التصرف بأي حال من الأحوال، لماذا تهتكون أسرار الناس؟ يجب أن تكفوا عن تشويه الشريعة بأمزجتكم. ومرة كان يزوره مسؤول كبير جداً.. وجرى الحديث عن الحرب العراقية الإيرانية ـ قبل سنوات من قبول إيران بقرار مجلس الأمن بإيقافها ـ وانفعل الشيخ مؤكداً أن الحرب مستمرة من أجل ترسيخ زعامة بعض الزعماء، وذكر بعضهم بالاسم ومنهم من كان يخاطبه، ونصحه بإصرار أن يبحثوا عن مخرج مشرف قبل أن تتراكم الخسائر وتصبح بحجم الفضيحة، ويظهر صدام حسين وكأنه قد حقق نصراً مجانياً علينا، خاصة أن إيران قد أثبتت قدرتها على الرد ولا داعي للغرور.
ولد في نجف آباد، المدينة المعروفة في محافظة أصفهان، مدينة الزراعة والكدح والعرق والعلم والنضال، قدمت ومنذ الأيام الأولى للحرب أكبر عدد من الشهداء، كما قدمت نسبة كبيرة من شهداء الثورة ومن العلماء والمناضلين والمشاركين في إدارة الثورة والدولة.. والده كان إماماً لمسجدها، وبقي مزارعاً وراعياً للناس علماً وعملاً حتى توفي بعد مئة سنة من عمره زاهداً.. لا يملك شيئاً.
ومرة بلغ أحد رجال الدين العرب أن الشيخ منتظري يفكر بزواج ولده سعيد من كريمة هذا العربي، وكان بيته مجمعاً على حب الشيخ أصولا وفروعاً، ولكن كريمته استشاطت غضباً وقالت: لا أوافق، لأنني لا أستطيع أن أعيش كما يعيشون على بساطة عيشنا، ولكن بساطتهم استثنائية ولذلك فإن زواجي من ولده سوف يكون مشكلة لنا وله.
وأخبر والد الفتاة الشيخ بما قالته فأرسل لها معه تحية ودعاء بالتوفيق.
درس في الحوزة كما يدرس الآخرون. ومن دون أي امتياز أو ادعاء أو استعراض، كان تلميذاً نجيباً للمرجع المميز السيد حسين البروجردي، الذي تميز كذلك بانفتاحه على فقه المذاهب واحترم جهود علمائها وناقشهم في أبحاثه المعمقة مع تلاميذه، وتأثر به لهذه الناحية تلميذه المنتظري الذي صدرت مؤلفاته الفقهية في شبابه المبكر مميزة بلغتها العربية الصافية ودقتها وتأدبها الشديد أثناء نقاشها لآراء الفقهاء السنة في المسائل الخلافية، وكانت مؤلفاته هي تقارير تمثل فهمه الشخصي لفقه أستاذه الذي توفي في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.
وفي العادة أن الناضجين من تلامذة المراجع السابقين يلتحقون بالمراجع الجدد الذين يحفظون لهم تميزهم وتقدمهم العلمي على غيرهم، وهكذا اندمج الشيخ منتظري بالإمام الخميني حتى عد تلميذاً مشتركاً له يقترب من الزمالة، ما جعله يقترب في نشاطه وجهاده السياسي العنيد من موقع الرفقة للإمام الذي رآه مرة خلاصة له وصرح بذلك.
شارك بفعالية في بناء الدولة ونقد السلطة فأثار حنق أهل السلطة مبكراً، وتمادى ولده في معارضته للسلطات بعد الثورة، الى حد أن أمره أبوه بالاعتزال فاعتزل، وعندما هدأ أعاده مجاهداً، بواقعية أوصلته الى الشهادة، مات محمد منتظري شهيداً نظيفاً.
ومن موقع الراعي والتاريخي شارك الشيخ حسين منتظري في وضع الدستور، وكان من أهم مؤصلي مسألة ولاية الفقيه، ولكنه عالم أولا وسياسي ثانيا أو ثالثا، ومن هنا استمر ولم يكف عن إعادة النظر في المسألة شأن العلماء، وانتهى في آخر المطاف الى الانحياز للتمييز بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة، وكتب فقهاً متراجعاً عن الولاية المطلقة للفقيه، داعياً الى (نظارة) الفقيه، أي تحويل الفقيه الى رقيب وناظر والى موقعه الإرشادي لا المولوي في إدارة الدولة.
نضاله وأهليته العلمية رشحاه لأن يكون خليفة الإمام. ولكن الإمام الذي كان يمتدحه صراحة كتابة، لم يعيّنه ملتزماً بالمنطق السائد، ولكن التقارير التي وصلت الى الإمام وضعته في سياق آخر، فتم قطع الطريق عليه وعزله في منزله، مع محطات أو جرعات من الحرية النسبية بين فترة وأخرى، لم ينقطع عن البحث والدرس وحده أو مع تلامذة على عدد أصابع اليد الواحدة، وعندما كانت الأمور تنفرج كان مجلسه العلمي يستقبل مئات الطلاب الذاهبين الى الاجتهاد، ولم تتراجع شعبيته، وبرغم كل العوائق وكل العوامل المساعدة للآخرين، بقي المرجع الأكثر انتشاراً في مرجعيته في الوسط الشعبي وبين العلماء وحتى بين رجال الدولة من دون أن تؤثر في ذلك أخطاء أو ردود أفعال جرت حوله من قبل مقربين منه، وتمت المبالغة العظمى فيها للانتقام منه. وتجلت جرأته وشجاعته وانحيازه للإصلاح أكثر ما تجلت في الفترة الأخيرة، حيث لم يعد الإصلاح فكرة، بل أصبح مساراً ومشروعاً تحمله قوى اجتماعية ودينية معنية بإيران ومستقبلها وتجربتها وما يقع على عاتقها من وظائف حضارية وسياسية، نموذجية تقوم على الحرية والديموقراطية والتوازن والاعتدال والإصلاح.
وغادرنا في هذه اللحظة الشديدة الحساسية، من دون أن يكون هاجسنا أن نبحث له عن خليفة في خطه، لان ذلك كان صعبا دائما فهؤلاء الرجال استثنائيون، غير ان الذي يعزينا هو أن تيار الإصلاح في إيران قد تحول الى مؤسسة مركبة ومتكاملة. هناك فريق كبير من الإصلاحيين الذين وجدوا رأيهم وأولوياتهم، ينهضون بالعبء، ويصبرون الى أن تنجز إيران كلها مخرجاً من أزمتها الحالية لتعود الى دورها وحيويتها من دون أوهام أو مبالغات. وتعود التنمية والنهضة لتواصل حركتها في إيران بالشعب الإيراني، كله ومن أجل إيران كله، والتي تنعكس خبراتها على أعماقها من دون مصادرة أو استلحاق.
سنبقى نذكر له، حبه ومجاهدته بحبه للعرب وفلسطين من دون وصاية أو منة على أحد، ومع الإصرار على احترام من يختلفون في ما بينهم من العرب والفلسطينيين، ومتى يختلف هو معهم.
لقد كنت من الذين فرحوا قليلاً عندما تم إقصاؤه لأنه أنقذه، أنقذ العالم الذي يكون دوره السياسي أكثر فاعلية، من خارج العملية السياسية وآلياتها السلطوية، والذي أحزنني هو القسوة التي ظهرت في سلوك بعض الذين استفادوا من قربهم منه ثم تحولوا الى أعداء مستفيدين من بعدهم عنه، لقد آذتنا طريقة التعامل معه. وجعلتنا نكف عن التوكيد بأن الثورة أو الدولة اذا ما كانت محكومة بقيم روحية فهي تختلف عن غيرها. وفوجئنا، ولكن المنتظري بقي مرجعا وأملا كما كان يسمى، ومات مرجعا في لحظة وجع وأمل.
*
من بحر الذكريات
قلت لصاحبي المدقق والمهذب إني ذاهب الى الشيخ منتظري. فقال لي: قل له إنه لا يناسبه أن يتكلم عن رئيس دولة كبيرة ومحترمة بلغة السخرية وإن كان يخالفه. قلت له ذلك. فأرسل معي تحية الى صديقي السيد محمد مرتضى، ولم يعد الشيخ الى استعمال ألفاظ السخرية.
ومرة، في أوائل الثورة، ودعته فقام لي عن أرض غرفته العارية إلا من بساط مستهلك واقتادني الى غرفة أخرى بعيداً عن رفيقي الأستاذ طلال سلمان الذي رشقني بابتسامة ذات معنى.. وقال الشيخ: أريد أن أزورك، قلت له: ليس لديّ منزل في قم، قال: أزوركم في منزلنا هنا، وسألني عما اذا كنت بحاجة الى مال ومد يده الى جيبه، كنت أعرف أنه سيعطيني ولكن ليس كثيرا، ولم أرفض لهذا السبب، بل لأني لم أكن بحاجة، قال لي: لمصروف رفاقك، قلت إنهم ميسورون (بسبب الأستاذ طلال) وقال لي العارفون إني لا أعرف قواعد السلوك مع المراجع.
فقد كان الرفض خطأ، سأعود الى هذا الخطأ دائما اذا كان المرجع مثل الشيخ منتظري لأني لا أخاف من ردة فعله، سوف يغضب عليّ بسبب الرفض ويثق أكثر بسبب هذا الرفض، هكذا تصبح القيمة رجلاً ويصبح الرجل قيمة.
* عندما حصلت فرجة في السياج المضروب حوله، كنت في قم وبعثت إليه من يقول له إني أنوي زيارته. فأرسل لي: لا داعي للعجلة، فهذه الزيارة لن تفيدني وقد تضرك، وبعد سنتين زرته، وجدته نحيفاً أكثر وناشطاً أكثر، وممتنعاً عن تذكر الأوجاع السالفة. سألني عن عائلتي وانتقل بسرعة الى فلسطين، سألني عن ياسر عرفات وصحته، وأبلغني عتبه عليه سياسياً ودعاءه له بالتوفيق.

طابت ذكراك أيها الشيخ الجليل

عادل حبه
الخبر المحزن الذي تناقلته وكالات الأنباء يوم الأحد المصادف 20 كانون الأول حول رحيل الشيخ الجليل آية الله حسين علي منتظري عن عمر ناهز السابعة والثمانين، بقدر ما أثار لدي الأسى والحزن، فإنه قد أرجعني إلى عقد الستينيات من القرن الماضي لأستذكر تلك الأيام المريرة التي قضيتها في سجن "قصر" في عهد الشاه. فقد تعرفت في هذا السجن وعبر سبع سنوات على الكثير من الوجوه البارزة في الحركة الوطنية الإيرانية ومنهم شيخنا الجليل وإبنه محمد منتظري في قاطع رقم 4 من هذا السجن. إن السجن السياسي ربما يكون فريداً ولا يضاهيه أي مكان أحياناً في شفافيته، حيث يمكن للمرء أن لا يتعرف فقط على الخريطة السياسية والاجتماعية لأي بلد بسبب تلون التيارات التي ينتمي السجناء السياسيين إليها، بل إن السجن يكشف أيضا كل مكنونات السجين وخصاله، نقاط قوته وحسناته والصفات السلبية التي لا يتحرر أي كائن إنساني منها.
في ربيع عام 1966 نقلنا نحن السجناء الشيوعيون العراقيون من قاطع رقم 3 في سجن قصر إلى قاطع رقم 4 الأكثر اتساعاً ومساحة. هناك التقينا بنخبة فريدة من السجناء السياسيين الإيرانيين الذين نقل غالبيتهم من سجن برازجان الصحراوي في أقصى الجنوب الإيراني بعد أن أعيدوا إلى سجن العاصمة. وكان منهم الضباط الشيوعيين من أعضاء حزب توده إيران (أعدم خمسة منهم بعد 30 عاماً في السجن من قبل حكام إيران الحاليين) وقادة حزب "نهضة الحرية" بزعامة المهندس مهدي بازركان وآية الله سيد محمود الطالقاني. وكان من بين السجناء أيضاً طيب الذكر آية الله حسين علي منتظري وابنه محمد اللذين يقضيان مدة حكم لمدة سنتين، إضافة إلى اثنين من قادة حزب توده ممن جرى تخفيف الحكم عليهم من الإعدام إلى المؤبد وهما برويز حكمت جو وعلي خاوري. وكان هناك عدد آخر من السجناء من مختلف الإتجاهات. وكانت شخصيتي رجلي الدين المرحوم آية الله سيد محمود الطالقاني والفقيد آية الله حسين علي منتظري، هي أكثر ما جلب الانتباه من بين السجناء، الذين كانا يتمتعان بخصائص تميزهما عن مجموعة غير قليلة من رجال الدين ممن صادفتهم أثناء فترة السجن.
فالفقيد حسين علي منتظري كان شديد الالتزام بموقف متسامح خال من تكفير أو نبذ لمن يحمل أفكاراً أوعقائد أوأديان أخرى. فهو يختلط بالجميع ويتناقش دون أن يفسد للوّد قضية ودون أن يمتنع عن تلبية الدعوة على كأس شاي أو وليمة "سجنية" خلافاً لما كان يقوم بها فريق من المتشددين ممن يجلسون على كراسي الحكم في إيران الآن. فتراه تارة يجالس الشهيد كاكي أوانسيان( أعدم في مجزرة السجون في عام 1988) ليتناقش ويتبادل النوادر ثم يرجع ليقوم بإداء طقوسه الدينية عندما يحين وقتها.
ولم ير منتظري في الدين أو المذهب وسيلة للإكراه أو فرض طقوس وخيار إيماني محدد عملاً بالنص القرآني "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ـ البقرة:256". كما كان ينظر إلى الإيمان الديني كخيار للبشر مسترشداً بسورة الكهف:" وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا". فالبشر حسب هذه الآية مخيّر في إيمانه ولكنه غير مخير في "ظلمه" سواء أكان مؤمناً أم غير مؤمن. فغضب الخالق ينصب على كل الظالمين ومنهم من كان "مسلماً" من أمثال معاوية ويزيد والحجاج وصلاح الدين الأيوبي محرر القدس الذي سفك دماء كل أركان حكام مصر من السلالة الفاطمية، ناهيك عن الجبابرة "المسلمين" في عصرنا من أمثال صدام حسين وعزة الدوري وعلي خامنئي وخلخالي وغيرهم من "المسلمين" الذين يتحملون وزر قتل وإبادة البشر بدون تكليف من رب العالمين.
امتاز الفقيد بسعيه للمعرفة. فهو لم يحدد نفسه بالمصادر الدينية على أهميتها بالنسبة له كرجل دين، بل تبحر في الأدب الفارسي وفي اللغة العربية، وكان يطالع ما يتسرب بشكل سري إلى السجن من كتب متنوعة ويتناقش حولها مع أصحاب الآراء الأخرى دون أن يفسد ذلك احترامه لهم. تراه أحياناً منهمكاً في متابعة دراسته للغة الإنجليزية التي أتقنها في السجن هو وابنه محمد، الذي كنت أدقق له دروس اللغتين الإنجليزية والعربية.
لقد قضى الفقيد منتظري نصف حياته في السجون والنفي والتشرد والإبعاد في عهد الشاه، والحجر المنزلي والأذى في عهد حكام الجمهورية الأسلامية. ولم يُقل ذلك من إرادته بل زادته المحن قوة وجعلت منه حساسا للغاية ضد الظلم ومناصراً لحق الإنسان في الحياة وفي حرية المعتقد ومنتقداً بليغاً وصريحاً للانتهاكات في زمن "الجمهورية الإسلامية" ولكل اعوجاج في سياستها. وجراء ذلك أتُهم بأنه اتخذ "مواقف غير مبدئية" تجاه الحرب العراقية الإيرانية!!!.. وهذا ما حدا بالتيار المتشدد للتآمر عليه وإبعاده عن منصب خليفة الخميني أو قائمقامه في حالة رحيله، وإزاحته عن الميدان السياسي ومنعه من اللقاء بأحد وعومل بأقسى وأحط الأساليب. فقد وجّه منتظري انتقاداً صريحاً لسياسة حكام إيران التي تراهن على استمرار الحرب مع العراق، وانتقد الشعار الذي رفعه المتشددون وحتى بعض من العراقيين الذين التفوا حول المتشددين ورفعوا شعار:" حرب حرب حتى النصر" و"الطريق إلى فلسطين عبر كربلاء"، وما يعني ذلك من استمرار هذه الحرب العبثية الدموية التي أشعلها صدام واستمر بها حكام التطرف الديني في إيران. وفي هذا الإطار انتقد حكم الإعدام الجائر الذي صدر بحق صهره مهدي هاشمي، وتنفيذ هذا الحكم بسبب فضحه لصفقة ما سمي آنذاك بـ"إيران غيت" بعد الزيارة السرية لماكفرلين موفد الرئيس الأمريكي ريغان في عام 1987 من أجل إطلاق سراح الدبلوماسيين الأمريكان الستة الذين اختطفوا من قبل حزب الله في لبنان مقابل إمداد إسرائيل للأسلحة إلى إيران، بما يعني ذلك استمرار هذه الحرب الجهنمية التي جلبت الدمار والقتل الجماعي لكلى الشعبين.
ونظراً لمشاعره الإنسانية ولتجاربه الشخصية مع اضطهاد بني البشر، فقد كان الوحيد من بين رجال الدين في إيران وخارجها من وجّه أشد أشكال الإدانة للمجازر الجماعية التي أرتكبت في صيف عام 1988، والتي رافقت قبول المرحوم الخميني بوقف الحرب العراقية الإيرانية بعد فشل شعار "حرب حرب حتى النصر". وطالت هذه المجازر ما يزيد على 5 آلاف من السجناء السياسيين في مختلف سجون إيران، وتم إعدامهم في ليلة واحدة وبدون محاكمات وبدون أدنى مبرر سوى مطالبة هذه الحركات السياسية بوقف الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس. واعتبر منتظري أن سكوت المراجع الدينية على هذه الانتهاكات" بمثابة ذريعة بيد الحكم للمزيد من هذه الانتهاكات". ولذا فليس من قبيل الصدفة أن تشير داعية حقوق الإنسان السيدة شيرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل إلى ذلك في رثائها للفقيد منتظري حيث قالت:" ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن السجناء السياسيين وتخليت جراء ذلك عن كل المناصب الحكومية وحتى زعامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن المظلوم دون أن تحرض على العنف ضد الظالم. تعلمت منك إن سكوت المظلوم يشجع الظالم، فلا ينبغي التزام الصمت. أبي لقد تعلمت الكثير منك رغم إنني لم أف بمقامك كابنة وتلميذة لك".
نعم إن الفقيد لم يكن من ذلك الطراز الذي يتاجر بإيمانه أو دينه من أجل الجاه، ولا يتظاهر يذلك من أجل المنصب أو جمع الأموال . فهو لم يلطخ جبينه بالسواد كي يدلل على مبالغته بتدينه وليصبح ذلك جوازاً للحصول على المكاسب والجاه كما يفعل عدد غير قليل من طلاب المناصب الآن. ولم يتوسل الفقيد منتظري بفتاوى تتعارض مع القيم الإنسانية، فهو الذي أفتى بجواز المصافحة بين النساء والرجال، واعتبر إن رفض هذه المصافحة لا يدل إلا على عدم الاحترام وقلة الذوق ولا علاقة لهذا الرفض بالمعايير الدينية. وكان الوحيد من بين رجال الدين من دافع عن الحريات الدينية و أدان القمع والتصفيات ضد أتباع المذهب البهائي في إيران معتبراً أن البهائيين مواطنون إيرانيون يجب أن يتمتعوا بنفس حقوق سائر المواطنين الإيرانيين. وأفتى بعدم شرعية انتزاع الاعترافات من المتهمين بالقوة وأدان مثل هذه الأساليب التي تمارس في أقبية سجون ومعتقلات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقال:"إن مثل هذه الاعترافات ليس لها أي أساس شرعي وقانوني ويجب توجيه الاتهام لمرتكبي هذه الأفعال وتقديمهم إلى محاكم عادلة وعلنية لكي يشعر المواطنون بعدم انتهاك حرياتهم ويشعروا بالأمل في المستقبل وأن لا يجري التوسل بالقمع وسد أبواب الجامعات لمنع الشعب من الاحتجاج". وفي الذكرى الثلاثين لاحتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الطلبة، اعتبر هذا الأجراء غير صحيح ولا يمت بصلة إلى طابع العلاقات المتحضرة بين الدول مهما كانت اختلافاتها.
وأعتبر منتظري إن ممارسات ولاية الفقية، والمرشد علي خامنئي على وجه الخصوص، ما هي إلاّ ضرب من الاستبداد الذي أطلق عليها أسم "ولاية العسكر"، وهي تشكل خطراً على الدين وعلى المراجع الدينية. وأكد وهو الذي أشرف على كتابة الدستور على أنه ليس من حق الولي الفقيه الولاية المطلقة ومصادرة رأي الناخب الإيراني بحيث يتحول الفقيه إلى الحاكم المطلق، فالنبي لم تكن لديه الولاية المطلقة. وأكد خاصة في السنوات الأخيرة على ضرورة "إدارة شؤون البلاد على أساس رأي الشعب". وإن مهمة ولي الفقيه هي الشؤون الفقهية والمراقبة على سير تطبيق الدستور وليس التحول هو ورجال الدين الآخرين من أنصاره إلى قادة لقوى الأمن أو إلى ضباط تحقيق ومخابرات أوإلى وزراء للداخلية. وطالب بعدم تدخل الولي الفقيه في شؤون الحكم واحترام الفصل بين السلطات والمسؤولية المشتركة أمام القانون دون أن يكون لولي الفقيه موقع فوق القوانين.
وتبلورت مواقف آية الله منتظري ضد الاستبداد والدفاع عن حقوق المواطن الإيراني في الأشهر الأخيرة من عمره بعد التزوير الفاضح في انتخابات رئاسة الجمهورية وتبلور "حركة الخضر" المناهضة للاستبداد الديني و "للدكتاتور"، بحيث أصبح الفقيد الزعيم الروحي لهذه الحركة الإصلاحية. وأعلن منتظري بصراحة "أن من يتوسل بالعنف والتزوير يفقد أية مشروعية في تولي المناصب والمسؤولية في الدولة الإيرانية". وعبر الفقيد بعد إعلان نتائج الانتخابات أن " العدالة والأمانة قد انهارت"، وحذر المسؤولين من نسيان استبداد الشاه وتجربته الفاشلة.
لقد مرت سنوات على اللقاء بهذه الشخصية الدينية الإنسانية، وكان آخرها دعوته لي والعائلة في بيته في مدينة قم بعد انتصار الثورة الإيرانية في ربيع عام 1979 وبعد تحرره من سجن الشاه. كان أكثر تواضعاً وبساطة وأشد حماساً لبناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان ومختلف الآراء والأديان، وعبر عن امتنانه لاستضافتي لابنه الشهيد محمد الذي قدم إلى العراق وأقام في بيتنا بعد هروبه من ملاحقة نظام الشاه عام 1972، ثم التحاقة بمكتب الراحل الخميني في مدينة النجف ثم عودته من جديد سراً إلى إيران. وقد ذهب محمد ضحية التفجير الذي عصف بمقر الحزب الجمهوري في طهران في يوم إطلاق سراحي من سجن إيفين في طهران في يوم 28 حزيران عام 1981.‏
طابت ذكراك أبها الشيخ الجليل، ولتهب في سماء إيران نسائم التسامح والمحبة وسمو القيم الإنسانية والإنسان باعتباره صاحب الحق و الكلمة الأخيرة في إدارة شؤونه.

adelmhaba@yahoo.co.uk
كاتب عراقي

الإسلام مقابل "الجمهورية الإسلامية" - مقال لمهدي خلجي

تبرز الآن فرصة جديدة للـ "الحركة الخضراء" في إيران لكي تظهر معارضتها للجمهورية الإسلامية ولنتائج الانتخابات الرئاسية المتلاعب بها في وقت سابق من هذا العام. فحسب «التقويم الإسلامي القمري»، وافق يوم الجمعة 18 كانون الأول/ديسمبر أول أيام شهر محرم الذي يعقبه شهر صفر. وبالنسبة للنظام في طهران، أصبحت السيطرة على الشوارع بصورة تدريجية أكثر صعوبة منذ أن بدأت الحركة الخضراء تحوّل جميع الإحتفالات السياسية الرسمية المجازة إلى فرص لشن احتجاجات ضد الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك، فإن الشهرين الحالي والمقبل، يمثلان المرة الأولى التي تحين فيها فرصة دينية.
الحداد معناه التمرد
حسب التقليد الشيعي، قاد الإمام الثالث حسين بن علي تمرداً نبيلاً ضد الحكم الظالم للخليفة المسلمي يزيد بن معاوية، ولكن التمرد كان فاشلاً في النهاية. ويمثل يوم العاشر من محرم، أو عاشوراء، نهاية ذلك التمرد الدموي في تشرين الأول/أكتوبر عام 680 م [سنة 61 هجرية] ، عندما واجه الإمام حسين جيش يزيد في كربلاء. وبمجرد هزيمة قوات الإمام حسين، قتل الإمام بطريقة وحشية مع بعض من تلاميذه السبعين، جنباً إلى جنب مع جميع الأعضاء الذكور من أفراد أسرته. ومنذ ذلك الحين، احتل الإمام حسين مكانة خاصة بالنسبة للشيعة. وحصل على لقب "سيد الشهداء"، وعلى مر التاريخ الإسلامي تأثر ملف صورته بأساطير ما قبل الإسلام، وكذلك بالكتاب المقدس المسيحي. إن إحياء ذكرى روحية الإمام حسين وتضحيته، فضلاً عن معاناة أسرته وتلاميذه، تمثل بمثابة نقطة محورية للحفاظ على الهوية الشيعية. وينظر الشيعة إلى أحداث عاشوراء باعتبارها لحظة حاسمة عندما انشقوا عن الطائفة السنية التي مثلت التيار الرئيسي والخلافة. واستطراداً لذلك، قام الشيعة منذ فترة طويلة بربط العزاء على الإمام حسين، وتضحيته الإلهية، مع مبادئ الحق والعدل بدلاً من القيادة الظالمة والقاسية.
محور الشبكات الاجتماعية الشيعية
لقد أصبحت مراسيم إحياء ذكرى عاشوراء بمثابة «الأسمنت» الأسطوري الذي يربط المجتمع في إيران، سواء قبل وبعد القرن السادس عشر — عندما أصبح المذهب الشيعي مذهب الدولة الرسمي. ولا تحيى الذاكرة في المساجد فحسب، بل أيضاً في مئات الآلاف من المباني المعروفة بالحسينيات أو التكايا التي تم تشييدها لغرض وحيد وهو إحياء ذكرى عاشوراء. وبالإضافة إلى هذه المواقع، التي يتم تمويلها من قبل الأوقاف والجهات المانحة الغنية، قام العديد من أسر الطبقة المتوسطة والعليا بتجهيز بيوتهم لتصبح أماكن لإحياء ذكرى مأساة كربلاء. ومن خلال هذا الإجراء، قام أعضاء هذه الأسر بمباركة ديارهم وأسرهم باسم الإمام حسين. إن كل من الحسينيات والمنازل الشخصية التي تستخدم لإحياء ذكرى [عاشوراء] قامت ببناء شبكة اجتماعية واسعة النطاق في إيران، وبقيت كبيرة حتى عندما أصبحت البلاد أكثر تمدناً. وقد قامت هذه الشبكة، في ظل ظروف معينة، بتأدية وظائف اجتماعية وسياسية غير دينية في ظل غياب مجتمعات المجتمع المدني، ووجود قيود فرضتها الحكومة في المجال العام. ويتم احياء ذكرى استشهاد الإمام حسين عن طريق طقوس الـ "روضة خاني"، التي تتكون من ألحان حزينة تسرد مآسي واقعة كربلاء، وعادة ما يؤديها مرتلين مهنيين ومنشدين دينيين، أو مداحين. وفي خلال هذين الشهرين محرم وصفر، يشكل الشيعة الـ "هيآت" أو الجمعيات الدينية، التي تنظم المواكب في الشوارع والتي تبدأ بقيام تجمعات في المساجد، أو الحسينيات، أو التكايا، أو المنازل الشخصية. ثم يخرج المصلون إلى الشوارع، حيث ينشدون أغاني دينية إيقاعية ويضربون صدورهم. ويقود صفوف الجلادين الذين يضربون أنفسهم بالسياط في هذه المواكب، شخص واحد أو أكثر من الأفراد الذين يتحملون عبء الوزن الساحق للصليب المزخرف من الصلب يسمى " عَلَمْ ". وتصاحب مراسيم الرثاء الحاشد في الشوارع موسيقى خاصة بذكرى عاشوراء، بما فيها العزف على الأبواق، والنقر على الطبلات، وغيرها من الآلات الموسيقية. ولا تقتصر أقوال المنشدين الدينيين والمرتلين المهنيين ورجال الدين على سرد مأساة واقعة كربلاء، بل يتطرقون أيضاً إلى القضايا الإجتماعية والسياسية المعاصرة. وفي السنوات التي سبقت الثورة الإسلامية، وفرت الأشهر محرم وصفر أفضل فرصة لرجال الدين المناهضين للحكومة لكي يقوموا بتحريك وحشد الناس ضد الشاه، وعادة عن طريق مقارنته مع يزيد بن معاوية، المثال للحاكم الظالم. ومن ناحية أخرى، شبهت المعارضة نفسها بالشهيد المقتول الإمام حسين الذي يجسد الحقيقة والعدالة.
فشل سياسة الإحتكار
منذ بداية الجمهورية الإسلامية، وضعت الحكومة نفسها باعتبارها السلطة الرسمية والحصرية في الشؤون الدينية. ولم يقتصر الأمر على قيام النظام باحتكار إدارة المنظمات والجمعيات الدينية-الاقتصادية التي تقوم بإدارة الأوقاف جنباً إلى جنب مع المؤسسة الدينية، ولكنه حاول أيضاً توطيد إدارة الطقوس الشيعية التي عادة ما تقع خارج نطاق الولاية القضائية للدولة. ومن خلال قيام الحكومة بإنشاء هيئات مثل "مكتب الدعاية الإسلامية (دفتر تبليغات إسلامي)"، و "منظمة الدعوة الإسلامية (سازمان تبليغات إسلامي)"، و "مركز إقامة صلاة الجمعة (دبيرخانه ائمه جمعه و جماعات)"، و "مركز شؤون المساجد (مرکز رسیدگی به امور مساجد)"، وعشرات غيرها من المؤسسات المماثلة، فقد تمكنت من تطهير رجال الدين الذين لا يُعتبرون مؤيدين للحكومة بما فيه الكافية ولإسكات وعوظهم وفعالياتهم خلال الطقوس الدينية مثل تلك التي تقام في عاشوراء. ومع ذلك، ونظراً للمراعاة الواسعة النطاق لطقوس محرم وصفر، فضلاً عن وصولها إلى كل ركن من أركان البلاد، لم تستطع الحكومة السيطرة بصورة فعالة على جميع الممارسات المرتبطة بإحياء هذه الذكرى. وفي السنوات الأخيرة، شكى النظام من المحاولات التي يقوم بها جيل الشباب لتحويل الإحتفاء بالذكرى الدينية إلى حدث أكثر تجديداً وعصرية. ولأسباب اجتماعية وثقافية كثيرة، تمكن الشباب الإيراني من تحويل الأحداث إلى فرصة لتجربة الموسيقى الجديدة، والإختلاط مع بعضهم البعض دون خوف من تدخل الشرطة، في الوقت الذي لا يستطيع هذا الشباب التمتع بالحفلات والمهرجانات في الشوارع كما يتمكن أقرانهم في أكثر المجتمعات الغربية المنحى، أو حتى الإلتقاء مع أعضاء من الجنس الآخر في الأماكن العامة.
وفي السنوات الأخيرة وخلال قيام المهرجانات، شهدت العديد من أحياء الطبقة الوسطى والعليا في المدن الكبرى فنانين شباب يغنون أغنيات عاطفية ورومانسية مع أناشيد متناقضة – وغير متحفظة ومفتوحة تجاه تحديد طبيعة هويتها من جانب أي من الجنسين وقابلة للتطبيق على الحب المقدس والدنيوي. كما أن ألحان وأسلوب الموسيقى هي أيضاً مستوحاة من أنماط غربية، بما في ذلك موسيقى "البوب والروك أند رول". ومن جانبهن، ترتدين الشابات، الفساتين والثياب المكشوفة، التي عادة ما تكون سوداء، وتذهب البعض منهن إلى حد وضع الماكياج الأسود، كمحاكاة للثقافة الفرعية القوطية الغربية. وقد انتقد آية الله علي خامنئي ورجال دين رسميين آخرين هذا "التحول" في طقوس عاشوراء بإعتباره "غير ملائم"، ولكن بالرغم من ذلك، فشلت الحكومة في منع الشبان من إعادة صياغة المراسم الدينية لأغراض خاصة بهم.
محاربة العدو بأسلحته الخاصة
أصبحت "الموجة الخضراء" - باعتبارها حركة لامركزية - في وضع يؤهلها تحدي الحكومة باستخدامها الطقوس الدينية التي تقام خلال شهري محرم وصفر. ومن وجهة نظر الحكومة، فإن قيامها بتصعيد المواجهة ضد المشهد الإجتماعي المفعم بالحيوية من شأنه أن يثبت بأنه مرهق إلى حد الإعياء. إن المساجد والمنازل في جميع المدن والقرى تقريباً التي يعيش فيها الشيعة، تشكل مراكز محتملة لقيام حركة مدنية وديمقراطية معارضة للحكومة. وبعد كل شيء، فقد استخدم الإيرانيون هذا الأسلوب نفسه خلال السنوات التي سبقت الثورة في عهد الشاه. وقد لعبت مشاركة الملايين في هذه الطقوس — بمن فيهم العديد من الذين لم يمارسوا عادة دينهم — دوراً رئيسياً في إسقاط نظام الشاه قبل ثلاثة عقود. واليوم، بإمكان رجال الدين ذوي الرتب المنخفضة أيضاً والذين يؤيدون الحركة الخضراء أن يلعبوا دوراً هاماً عن طريق سماحهم للشعب بتسييس المراسيم وتحويلها إلى تجمعات للمعارضة. وفي بيان صدر مؤخراً، قال رجل الدين المعارض آية الله حسين علي منتظري [الذي توفي في مدينة قم يوم السبت التاسع عشر من كانون الأول/ديسمبر الحالي عن 87 عاماً] أن "الجمهورية الإسلامية ليست إسلامية أو جمهورية، بل هي حكومة عسكرية".
إن قيام الحركة الخضراء باستخدام الأشهر محرم وصفر [لأهدافها السياسية] يمكن أن يكون له تأثير هائل على المؤهلات الدينية والشرعية للنظام. وإذا كانت الحكومة تتجنب العنف انطلاقاً من احترام القيم الدينية للأشهر محرم وصفر، فإن ذلك قد يعني قيام تحديات علنية لأسس إيديولوجية الجمهورية الإسلامية خلال هذين الشهرين. ولكن إذا ما اتخذت الحكومة إجراءات مشددة ضد المظاهر الدينية، فإن الاستياء ضد الجمهورية الإسلامية يمكن أن يزداد بدرجة كبيرة.
مهدي خلجي هو زميل أقدم في
معهد واشنطن، يركز على السياسة الإيرانية وسياسة الجماعات الشيعية في الشرق الأوسط.