الجمعة، 25 ديسمبر 2009

الرجـل القيمـة أو القيمـة رجـلاً

هاني فحص
... بعد صلاة المغرب، في يوم صيفي حار، انتظرته مع صديقي المناضل الجزائري الكبير العباسي موفداً من الرئيس أحمد بن بله، في حديقة منزله الصغيرة في قم.. كان هناك شخص يصلي في طرف الحديقة بلباس منزلي شديد التواضع والبساطة، وليس عليه شيء يدل عليه. انتهى من صلاته وتقدم نحونا مسلماً... قفز العباسي من مكانه ليسلم وشرع في البكاء مندهشاً بهذه البساطة وهذا الترفع عن الدنيا... وعاد بالذكرى الى أيام النضال الجزائري الأولى.. وحكى لنا تفاصيل مدهشة وتأسفنا.. ومرة زاره عصر يوم رمضاني طبيبه الدكتور قارون الذي كان يعالجه من آثار التعذيب في سجن الشاه، واقترب موعد الإفطار، فاستأذن الطبيب ليخرج، فألح عليه أن يتناول الإفطار معه. وافق قارون وسأل: وما إفطارنا؟ قال الشيخ: زوجتي ليست في المنزل منذ أيام، وأمس حمست بالدهن، بعضاً من بيض الدجاج لإفطاري، كان كثيراً وبقي منه شيء وضعته في الثلاجة، والآن نستخرجه ونسخنه ونفطر.. فصرخ الطبيب: لا.. ولا أريد أن أبحث عمن يعشيني بعد الإفطار معك! وخرج. وقيل لي إن المرحوم السيد محمد حسين بهشتي كان مرة في زيارته وجاء وقت الغداء، فسأله عما يمكن أن يتناوله معه غداء، فقال: لديّ كمية من المخيض نبل بها خبزاً بائتاً.. فاعتذر السيد وخرج ضاحكا باحثا عن عشاء أقل تقشفا!
ومرة كان في زيارته أحد الوزراء الخدماتيين.. ومعه حقيبة ضخمة.. قال له الشيخ: ما هذا؟ قال الوزير: هذه رسائل الشكر لي من الشعب على إنجازاتي.. كان الشيخ قد تناوله بالاسم وعلناً ناقداً تقصيره في شؤون الإسكان.. أجابه الشيخ: ولكن رسائل الاحتجاج الشعبي والشكوى عليك حجمها عندي أكبر بكثير من حقيبتك.. والحل هو ألا تأتيني رسائل الشكوى. بعد هذا اليوم، وألا تبقى أنت بحاجة الى زيارتي.
ومرة.. كنا في زيارته وكان يخطب في وفد كبير من قوات الحرس الثوري القادمة من مدينة سمنان.. قرّعهم بشدة على تصرفاتهم الأمنية غير الدقيقة وتغطيتهم لها بالشرع.. وقال: يمر بكم من يحمل قارورة فيها سائل ملون، أحمر مثلا أو أبيض، وتعتقلونه على أساس أنه يحمل مسكرات، ويتبين العكس، فتتركونه وهو شاعر بالمهانة. أما الشرع فإنه لا يجيز لكم مثل هذا التصرف بأي حال من الأحوال، لماذا تهتكون أسرار الناس؟ يجب أن تكفوا عن تشويه الشريعة بأمزجتكم. ومرة كان يزوره مسؤول كبير جداً.. وجرى الحديث عن الحرب العراقية الإيرانية ـ قبل سنوات من قبول إيران بقرار مجلس الأمن بإيقافها ـ وانفعل الشيخ مؤكداً أن الحرب مستمرة من أجل ترسيخ زعامة بعض الزعماء، وذكر بعضهم بالاسم ومنهم من كان يخاطبه، ونصحه بإصرار أن يبحثوا عن مخرج مشرف قبل أن تتراكم الخسائر وتصبح بحجم الفضيحة، ويظهر صدام حسين وكأنه قد حقق نصراً مجانياً علينا، خاصة أن إيران قد أثبتت قدرتها على الرد ولا داعي للغرور.
ولد في نجف آباد، المدينة المعروفة في محافظة أصفهان، مدينة الزراعة والكدح والعرق والعلم والنضال، قدمت ومنذ الأيام الأولى للحرب أكبر عدد من الشهداء، كما قدمت نسبة كبيرة من شهداء الثورة ومن العلماء والمناضلين والمشاركين في إدارة الثورة والدولة.. والده كان إماماً لمسجدها، وبقي مزارعاً وراعياً للناس علماً وعملاً حتى توفي بعد مئة سنة من عمره زاهداً.. لا يملك شيئاً.
ومرة بلغ أحد رجال الدين العرب أن الشيخ منتظري يفكر بزواج ولده سعيد من كريمة هذا العربي، وكان بيته مجمعاً على حب الشيخ أصولا وفروعاً، ولكن كريمته استشاطت غضباً وقالت: لا أوافق، لأنني لا أستطيع أن أعيش كما يعيشون على بساطة عيشنا، ولكن بساطتهم استثنائية ولذلك فإن زواجي من ولده سوف يكون مشكلة لنا وله.
وأخبر والد الفتاة الشيخ بما قالته فأرسل لها معه تحية ودعاء بالتوفيق.
درس في الحوزة كما يدرس الآخرون. ومن دون أي امتياز أو ادعاء أو استعراض، كان تلميذاً نجيباً للمرجع المميز السيد حسين البروجردي، الذي تميز كذلك بانفتاحه على فقه المذاهب واحترم جهود علمائها وناقشهم في أبحاثه المعمقة مع تلاميذه، وتأثر به لهذه الناحية تلميذه المنتظري الذي صدرت مؤلفاته الفقهية في شبابه المبكر مميزة بلغتها العربية الصافية ودقتها وتأدبها الشديد أثناء نقاشها لآراء الفقهاء السنة في المسائل الخلافية، وكانت مؤلفاته هي تقارير تمثل فهمه الشخصي لفقه أستاذه الذي توفي في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.
وفي العادة أن الناضجين من تلامذة المراجع السابقين يلتحقون بالمراجع الجدد الذين يحفظون لهم تميزهم وتقدمهم العلمي على غيرهم، وهكذا اندمج الشيخ منتظري بالإمام الخميني حتى عد تلميذاً مشتركاً له يقترب من الزمالة، ما جعله يقترب في نشاطه وجهاده السياسي العنيد من موقع الرفقة للإمام الذي رآه مرة خلاصة له وصرح بذلك.
شارك بفعالية في بناء الدولة ونقد السلطة فأثار حنق أهل السلطة مبكراً، وتمادى ولده في معارضته للسلطات بعد الثورة، الى حد أن أمره أبوه بالاعتزال فاعتزل، وعندما هدأ أعاده مجاهداً، بواقعية أوصلته الى الشهادة، مات محمد منتظري شهيداً نظيفاً.
ومن موقع الراعي والتاريخي شارك الشيخ حسين منتظري في وضع الدستور، وكان من أهم مؤصلي مسألة ولاية الفقيه، ولكنه عالم أولا وسياسي ثانيا أو ثالثا، ومن هنا استمر ولم يكف عن إعادة النظر في المسألة شأن العلماء، وانتهى في آخر المطاف الى الانحياز للتمييز بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة، وكتب فقهاً متراجعاً عن الولاية المطلقة للفقيه، داعياً الى (نظارة) الفقيه، أي تحويل الفقيه الى رقيب وناظر والى موقعه الإرشادي لا المولوي في إدارة الدولة.
نضاله وأهليته العلمية رشحاه لأن يكون خليفة الإمام. ولكن الإمام الذي كان يمتدحه صراحة كتابة، لم يعيّنه ملتزماً بالمنطق السائد، ولكن التقارير التي وصلت الى الإمام وضعته في سياق آخر، فتم قطع الطريق عليه وعزله في منزله، مع محطات أو جرعات من الحرية النسبية بين فترة وأخرى، لم ينقطع عن البحث والدرس وحده أو مع تلامذة على عدد أصابع اليد الواحدة، وعندما كانت الأمور تنفرج كان مجلسه العلمي يستقبل مئات الطلاب الذاهبين الى الاجتهاد، ولم تتراجع شعبيته، وبرغم كل العوائق وكل العوامل المساعدة للآخرين، بقي المرجع الأكثر انتشاراً في مرجعيته في الوسط الشعبي وبين العلماء وحتى بين رجال الدولة من دون أن تؤثر في ذلك أخطاء أو ردود أفعال جرت حوله من قبل مقربين منه، وتمت المبالغة العظمى فيها للانتقام منه. وتجلت جرأته وشجاعته وانحيازه للإصلاح أكثر ما تجلت في الفترة الأخيرة، حيث لم يعد الإصلاح فكرة، بل أصبح مساراً ومشروعاً تحمله قوى اجتماعية ودينية معنية بإيران ومستقبلها وتجربتها وما يقع على عاتقها من وظائف حضارية وسياسية، نموذجية تقوم على الحرية والديموقراطية والتوازن والاعتدال والإصلاح.
وغادرنا في هذه اللحظة الشديدة الحساسية، من دون أن يكون هاجسنا أن نبحث له عن خليفة في خطه، لان ذلك كان صعبا دائما فهؤلاء الرجال استثنائيون، غير ان الذي يعزينا هو أن تيار الإصلاح في إيران قد تحول الى مؤسسة مركبة ومتكاملة. هناك فريق كبير من الإصلاحيين الذين وجدوا رأيهم وأولوياتهم، ينهضون بالعبء، ويصبرون الى أن تنجز إيران كلها مخرجاً من أزمتها الحالية لتعود الى دورها وحيويتها من دون أوهام أو مبالغات. وتعود التنمية والنهضة لتواصل حركتها في إيران بالشعب الإيراني، كله ومن أجل إيران كله، والتي تنعكس خبراتها على أعماقها من دون مصادرة أو استلحاق.
سنبقى نذكر له، حبه ومجاهدته بحبه للعرب وفلسطين من دون وصاية أو منة على أحد، ومع الإصرار على احترام من يختلفون في ما بينهم من العرب والفلسطينيين، ومتى يختلف هو معهم.
لقد كنت من الذين فرحوا قليلاً عندما تم إقصاؤه لأنه أنقذه، أنقذ العالم الذي يكون دوره السياسي أكثر فاعلية، من خارج العملية السياسية وآلياتها السلطوية، والذي أحزنني هو القسوة التي ظهرت في سلوك بعض الذين استفادوا من قربهم منه ثم تحولوا الى أعداء مستفيدين من بعدهم عنه، لقد آذتنا طريقة التعامل معه. وجعلتنا نكف عن التوكيد بأن الثورة أو الدولة اذا ما كانت محكومة بقيم روحية فهي تختلف عن غيرها. وفوجئنا، ولكن المنتظري بقي مرجعا وأملا كما كان يسمى، ومات مرجعا في لحظة وجع وأمل.
*
من بحر الذكريات
قلت لصاحبي المدقق والمهذب إني ذاهب الى الشيخ منتظري. فقال لي: قل له إنه لا يناسبه أن يتكلم عن رئيس دولة كبيرة ومحترمة بلغة السخرية وإن كان يخالفه. قلت له ذلك. فأرسل معي تحية الى صديقي السيد محمد مرتضى، ولم يعد الشيخ الى استعمال ألفاظ السخرية.
ومرة، في أوائل الثورة، ودعته فقام لي عن أرض غرفته العارية إلا من بساط مستهلك واقتادني الى غرفة أخرى بعيداً عن رفيقي الأستاذ طلال سلمان الذي رشقني بابتسامة ذات معنى.. وقال الشيخ: أريد أن أزورك، قلت له: ليس لديّ منزل في قم، قال: أزوركم في منزلنا هنا، وسألني عما اذا كنت بحاجة الى مال ومد يده الى جيبه، كنت أعرف أنه سيعطيني ولكن ليس كثيرا، ولم أرفض لهذا السبب، بل لأني لم أكن بحاجة، قال لي: لمصروف رفاقك، قلت إنهم ميسورون (بسبب الأستاذ طلال) وقال لي العارفون إني لا أعرف قواعد السلوك مع المراجع.
فقد كان الرفض خطأ، سأعود الى هذا الخطأ دائما اذا كان المرجع مثل الشيخ منتظري لأني لا أخاف من ردة فعله، سوف يغضب عليّ بسبب الرفض ويثق أكثر بسبب هذا الرفض، هكذا تصبح القيمة رجلاً ويصبح الرجل قيمة.
* عندما حصلت فرجة في السياج المضروب حوله، كنت في قم وبعثت إليه من يقول له إني أنوي زيارته. فأرسل لي: لا داعي للعجلة، فهذه الزيارة لن تفيدني وقد تضرك، وبعد سنتين زرته، وجدته نحيفاً أكثر وناشطاً أكثر، وممتنعاً عن تذكر الأوجاع السالفة. سألني عن عائلتي وانتقل بسرعة الى فلسطين، سألني عن ياسر عرفات وصحته، وأبلغني عتبه عليه سياسياً ودعاءه له بالتوفيق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق