الجمعة، 2 أكتوبر 2009

ايران المتعثرة بين التراث والحداثة - مقال لمحمد فلاحيه

أمام المد القومي (المقصود بالمد القومي ليس الشوفيني منه بل المد الذي يفضل الوطنية عن حكم المذهب) الايراني اللثام عن ازمة متخفية منذ امد طويل يصل عمرها الی عمر الجمهورية الاسلامية الايرانية التي جاءت على انقاض الحكم الملكي والذي كان يمثل التيار القومي ليس برمته لكن بأحد أوجهه. فمن خصوصيات هذا المد القومي الايراني، واقصد بمعظم تياراته، معاداة الاسلام والعرب والدعوة الى تغيير جذري في الثقافة الايرانية والعودة الى الماضي التليد. والآن، وبعد مرور 3 عقود على استيلاء المد الديني في ايران- وطبعا هذا المد فيه عدة تيارات، من بينها اليسار الديني واليمين الديني والوسط الديني- ظهرت الى السطح بعد مجيء الثورة الاسلامية نظرة قومية ذات طابع شوفيني تستعدي العرب وتركز على القضايا الوطنية دون غيرها وتهدف لابعاد ايران عن قضايا الاسلام والمنطقة العربية .
والتيار الديني الذي طالما عارض فكرة عزل ايران عن محيطه الاسلامي انقسم علی نفسه، فمثلا، كان اليمين الديني في بداية الثمانينات يدعو الى التعامل الوثيق مع العرب لمجابهة اسرائيل (آية الله طالقاني كان يرأس هذا التيار ويدعمه اليسار الديني في ايران أنذاك وعلى رأسهم "مجاهدي خلق")، بينما تحالف اليوم اليسار واليمين الديني في معاداة العرب. فدعوة ناطق نوري لضم البحرين لإيران توجّه اكثر راديكالية من قبل اليمين تجاه العرب. ولیت شعري، هل هذا العداء المستشری بین ایران والعرب یعود لضعف العرب فی التعامل مع ایران ام یعود الی قوة العمل الاستشراقي في تضخيم الهوة بين ايران والعرب (حيث يرى كاتب المقال، ولعل الكثيرين يتفق معه، ان حالة العداء بين ايران والعرب ظهرت في مطلع القرن الماضي وفي خضم العمل الاستشراقي لفرض الهيمنة على المنطقة كما هو الحال بزرع العداء بين العرب انفسهم ابان الحكم العثماني الذي كان يحاول تمزيق الصف العربي ببث الفرقة بين مسيحيين ويهود ومسلمين عرب). ولنعد لصلب الموضوع وهو ايران وتياراتها الدينية والسياسية المتعثرة بين الحداثة والتراث. مواقف اليسار الديني حيال العرب وقضاياهم في ايران اصبحت مكشوفة لكل متابع لملف ايران. فهؤلاء اصحاب نبرة لبرالية يتخوفون من العرب بسبب الرابط الديني وهو الاسلام. اما اليوم فإن ايران، التي يحكمها محافظون ترعرعوا في رحم التيار المحافظ التقليدي، تعتنق نفس النظرة المتشائمة حيال العرب. وباعتقادي ان التخوف او التشكيك حيال العرب في ايران بين جميع القوى الوطنية والقومية والليبيرالية يعود الى الحذر والترقب من دعم الدول العربية لقضايا العرب في ايران الذين يقطنون الجنوب ، ومعظم هؤلاء هم من الطائفة السنية. والخوف من المد الانفصالي في "الأهواز" (جنوب ايران) يزيد الطين بلة. وكوني صحفي انتمى لتلك المنطقة، وسجنت لـ3 سنوات بسبب تلك القضية، فإنني اريد طمأنة الايرانييين بان عرب ايران لا يريدون الانفصال وانما يريدون الحصول على ابسط حقوقهم القومية والانسانية، لا غير. في المقابل هنالك تيار متشعب من الملكيين يسمى "تيار رابطة الملكيين في ايران" ("انجمن بادشاهي ايران") يسخط بشكل غريب على العرب والاسلام، وكانت لي مجادلات مع هؤلاء، وكنا نزلاء السجن لكنهم غير متقبلين لحقوق القوميات في ايران بتاتا ويعرف عنهم بانهم متهورون .
اذا خرجنا من دائرة القوميين الايرانيين بكل أطيافها الديني او الوطني و سواء القومي الشوفيني او القومي الإثني، فسنجد ان ايران فيها وعي جماهيري متأصل وخاصة فيما يتعلق بالشرائح المدنية فرغم الكبت والاضطهاد الذي تتعرض له من قبل السلطات فانها تنشط بشكل مؤثر في الشارع الايراني. ومن اهم هذه الحركات المدنية الحركاتُ النسوية والعمالية والحركة الطلابية. وهذا، اذا صحت تسمية الاخيرة بالحركة لان في "الحركة" كما يرى علماء الاجتماع مواصفات منها سياسية او طبقية اواجتماعية. فالحركة الطلابية لا تحدد مطالباتها ودائما تسير في فلك تيار الإصلاح وتتبع لتيارات اليسار، الديني منه او الاشتراكي. وهذا رغم اعتزازي بكل الحركات الطلابية، فانها قدمت الكثير من السجناء والمعتقلين وتضحياتها لا تحصى ولا تعد خدمة لمطالبات الشعب. اما بالنسبة للحركة النسوية فببكونها حركة تدور حول محور المطالبات الفئوية التي تطالب بمزيد من الحرية للمرأة الايرانية فان هذه الحركة الفمنية تعرضت بعد مجئ احمدي نجاد لضغط متزايد من قبل اجهزة الامن والمحاكم الثورية وقدمت تضحيات جسام في سبيل نيل مطالبها المدنية ومازالت تواصل طريق التجديد وتوعية شريحة النساء بامكاناتها المتواضعة ورغم اتفاقها مع الحركة العمالية، الا ان الحركة العمالية- بزعيمها "منصور اسانلو" الذي كان نزيلا معي في "قاطع 350" بسجن "افين"- الحركة العمالية تدور في فلك الاشتراكية الا ان الحركة النسوية الايرانية حركة لبرالية تحررية واما اليسار الطلابي واقصد باليسار "الفكري" لا "الديني"، فهو يتفق مع العمال. ومطالبات هاتين الجبهتين موحدة، الا ان الحركة النسوية في ايران تتفق مع اليمين الفكري الليبرالي الطلابي والذي ينشط في جامعتي "طبطبائي" و"بلي تكنيك" (امير كبير). وقادة هاتين الحركتين ايضا التقيت معهم في السجن، وكانوا متفهمين لقضايا القوميات مثلهم مثل اليسار الطلابي.
واما في ما يتعلق با لقوميات الايرانية فانها تتفق مع اليسار الفكري واليمين اللبرالي لان كلتا الحركتين ترفع شعارات التسوية بالحقوق والمساواة. وحتى ان البعض من التيارات الفكرية الايرانية ترفع شعارات يراها البعض اكثر راديكالية، وهي شعار الفيدرالية لايران .كما طالب المنظر الاصلاحي أنذاك سعيد حجاريان الذي قبع في السجن لمدة 109 يوماً بعد الانتخابات واطلق سراحه يوم امس، وغيره من المفكرين والسياسين الايرانيين في الداخل، فقد ازاحوا عن وجوههم العداء للقوميات الايرانية. وهذا الامر طبعا يعد من ابرزالتحولات الحداثوية في ايران ان صح التعبير، بعد اخذهم للفدرالية بعين الاعتبار. وهذا الامر يروق كثيرا للناشطين في المجال القومي الاثني في ايران
وهنالك تيار اكثر قبولا لقضايا العصر في ايران. ويركز هذا التيار اهتمامه حول محور حقوق الانسان ويضم شخصيات سياسية معروفة في ايران، من بينهم "ع
ماد الدين باقي"، و"شيرين عبادي" الحائزة على جائزة نوبل للسلام، وقادة حركات نسوية وصحفيين وقادة احزاب وحركات مثل المهندس "طبرزدي" وقادة احزاب وناشطون من "الجبهة القومية الايرانية" التي اسسها قادة ومناصرون للدكتور مصدق، الزعيم التاريخي لتلك الحركة. يتفق كل هؤلاء حول المحور الحقوقي وبيان حقوق الانسان، وتدور مطالبهم حول تعديل الدستور الايراني ليصب في اتجاه مراعاة حقوق الانسان وحرية التعبير والنشر والمعتقد وحرية المذهب.
اضافة لكل هؤلاء ظهر بعد الانتخابات الايرانية وما اعقبها من مآسي، تيار ديني يتزعمه المرجع الروحي آية الله "منتظري" وآية الله "صانعي" وآية الله "دستغيب". يتفق هؤلاء على مشروع احترام حقوق المعارضة واعادة الانتخابات واعطاء مزيد من الحريات للشعب الايراني. فخروج التيار التقليدي الايراني من صمته والوقوف بوجه الاستبداد وكبت الحريات ظاهرة فريدة من نوعها لم تشهد لها البلاد لا في السابق القريب ولا البعيد، وهذا الامر يبشر بكل خير. فالتحالف بين التيارات التقليدية والتيارات الحداثوية في ايران سيتجه بهذا البلد نحو بر الامان، وسيبعث على الامل بان تؤسس جمعيات المجتمع المدني اطارا لا يستطيع ان يعبث به شخص مهما كانت سلطته او سطوته. وتجربة ايران في إعلان اول دستور متحضر قبل 100عام، قبل غيرها في المنطقة، سوف تمنح الخبرة لعقلاء هذا البلد بان يؤسسوا دستورا ونظاما لايستطيع شخص التفرد بتحطيمه سواء كان هذا الشخص ملكاً ام "ولي الفقيه وكل ذلك يتحدد في الوقت الراهن بالمؤج بين الحداثة والتراث للتوصل الى صيغة ترضي كل الاطراف وكل التيارات سوف نبحث في المقال القادم بالتفصيل ما يجري الان في ايران من تطورا ت واحداث تستحق العناية والتركيز مهما بحثت من قبل المحللين فهي تستحق ان تدرس بعناية دراسة مركزة ومن قبل اشخاص يتعايشون معها يوميا
أما التقليديين الذين لم اخصص لهم مساحة كبيرة في المقال، فهم دعاة الفكر المتطرف الذي لا يساوم، والذي يرى كل تجدد وحداثة على انها خطر قادم من الغرب. وهم يرفضون فكرة اعطاء الشعب حريته، ويرون ان انتخاب الشعب ليس مشروعا وان الشرعية لله يمنحها لولي الفقيه او رئيس البلد. ويتزعم هذه الفكرة الزعيم الروحي اية الله مصبا ح يزدي، ملهم الرئيس الايراني الحالي احمدي نجاد، وبعض من انصاره الدينيين في "قم". اما بقية المراجع الدينيين فيتقبلون العصرنة واثرها على الحكم والحياة.
الفكر الشوفيني الايراني (أمثال "بان ايرانيسم وانجمن بادشاهي ايران") يشبه الى حد بعيد التيار الديني المتزمت والمنقلق على نفسه. فالاثنان لا يؤمنان بحق الشعب في تقرير مصيره ويرفضان الحداثة والعصرية. فهذا الصراع بين الحداثة والتراث مستمر لا فائز فيه. الفائز الوحيد من يتكيف مع العصر، والخاسر الوحيد هو من يسير بعكس التيار.

نقلا عن موقع "الشفاف"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق