الأحد، 11 أكتوبر 2009

ولايات الفقيه الإيرانية «إمبراطورية لا تعرف حدوداً» .. مقال لزهير هاشم


لم يكن يدري آية الله وروحه، الإمام الخميني، عندما أطلّ من باب الطائرة التي أقّلته في رحلة عودته المظفّرة والتاريخية من باريس إلى طهران، أنه سيكون خاتم صنّاع ثورات القرن العشرين، وأن عشر سنوات قادمة سوف تُؤذن بسقوط مدوٍ لمفاهيم تلك الثورات التي بدأت في مطلع ذلك القرن في روسيا وانهارت كعمارات كرتونية في نهاية ثمانينياته ومطلع تسعينياته في أوروبا الشرقية، وشكّل سقوط جدار برلين رمزاً لانهيارها وسقوطها. حيّا الخميني، محاطاً بأخوة الثورة ورفاق الدرب، ملايين الإيرانيين الذين احتشدوا لاستقباله في ذلك النهار الإيراني الطويل الذي شغل العالم ولا يزال.
فالثورات تتشابه، وإن اختلفت فكراً، عقيدةً أو ديناً، لكنها تبقى واحدة، عملاً، أسلوباً وأهدافاً. فالثورة بعد انتصارها ما تلبث أن تأكل أبناءها وتحوّلهم حطاماً وهياكل، والظلم بعدها إلى أقسى، والحرمان إلى أشد، وزعيم الثورة من داعية إلى جلاد وديكتاتور، والدولة إلى دولة الثورة وسلطة الثورة. ويرافق ذلك حكماً، انفراط عقد الثوار فتضيق مروحتهم الواسعة التي غالباً ما تضم تيارات واتجاهات سياسية وفكرية واسعة ومختلفة إلى حلقة ضيّقة يختصرها زعيم الثورة بنفسه، وتتبخر معها أحلام الثائرين وآمالهم. فهذا النوع من الثورات لا يقيم عقداً إجتماعياً ينظّم علاقة المواطن بالدولة بل قيداً شاملاً يلفّ الحياة كلّها ويحوّلها إلى سجنِ كبير.
فالثورة استبدلت الشاه الذي كان يتربّع على عرشٍ أرضي بشاهٍ إستمدّ من السماء غطاءً شرعياً مقدّساً، دعّم به سلطانه على الأرض. فأصبح الخميني رئيساً للدولة مدى الحياة، ومرشداً روحياً أعلى لها. فاستُبدل "السافاك" بالحرس الثوري ومعه «الباسيج» و«الباسداران»، والحاشية بنظام الملالي، والبذخ والإسراف والمجون بقوانين إسلامية صارمة، قيّدت الحياة العامة وكبّلتها. ونالت المرأة منها حصة الأسد، حوّلت معها إيران إلى «عورة» كبيرة غطّتها الثورة بحجاب كبير. وحدها الأحلام الإمبراطورية لم تتغيّر، فإيران القوية وشرطي الخليج زمن الشاه، أصبحت عسكري المنطقة ومصدر رعبها زمن أحمدي نجاد. فشعار تصدير الثورة الذي تموت بدونه الثورات ولا تستمر وكان همّ الخميني الأول، نجح في أكثر من مكان. ونهج ولاية الفقيه الذي كرّسته الثورة في صلب عملها السياسي والديني، أزهر ولايات في لبنان والعراق وفلسطين واليمن والكويت والبحرين وسوريا وقطر والسودان، وأصبح له وكلاء شرعيون وأذرع طويلة اخترقت النسيج الإجتماعي والسياسي والرسمي العربي.
نتيجة الغياب والعجز العربيين اللذين تجليّا فساداً وتخلفاً واستبداداً وقمعاً للحريات، ومصادرة للحياة السياسية، ونتيجة غياب المشروع العربي بحده الأدنى وعلى كافة المستويات، والتخلف عن قضايا التنمية بمختلف مجالاتها الإقتصادية والإجتماعية، أطلّت الثورة - الدولة، وبدأت بالسطو على قضايا العرب وفي مقدمها القضية الفلسطينية. وأصبحت بفضل هذا السطو لاعباً أساسياً في موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي على مستوى المنطقة والعالم، وأصبح معها أمن إيران القومي عند تخوم بلدات "عيتا الشعب" اللبنانية و"بيت حانون" الفلسطينية و"الأنبار" العراقية و"صعدة" اليمنية، وليس في الخليج الذي تعترض إيران دائماً على تسميته عربياً وتصرّ على أنه فارسيٌ بامتياز.
إنّ القشرة الخفيفة التي تغطي بها إيران، أحلام الدولة بشعارات الثورة أصبحت شفافة إلى حدٍ بعيد. والخط الرفيع الفاصل بينهما لم يعد موجوداً. فتشكيلة الصواريخ الواسعة التي يملكها حزب الله، وتشكيلة «القسّام» التي تملكها حماس، هي الحارس الأمين للمفاعل النووي الإيراني والمدافع الأول عنه. فمعادلة «السلاح دفاعاً عن السلاح» التي أرساها أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله عشية غزوة بيروت في السابع من أيار الشهير هي جزء من معادلة تشمل كل سلاح ولايات الفقيه الإيرانية. وإلى جانب تخصيب اليورانيوم، تخصّب إيران يورانيوم من نوع آخر، هدفه تحويل كل الأقليات الشيعية في أرجاء العالم العربي إلى ما يشبه المستوطنات والمربعات الأمنية المتنقلة والتي ظهرت نماذجها واضحة في لبنان وغزة وصعدة وغيرها، بغية حماية أحلام الدولة بالتوسع والسيطرة. إنّ علامات استفهام وأسئلة كثيرة تُطرح بقوة حول معنى التبني الإيراني - الثوري للقضية الفلسطينية والعداء المطلق لإسرائيل، رغم البعد الزمني والموضوعي والجغرافي عنها. وعلامات إستفهام أخرى حول شعار «الإستكبار العالمي». فالتصريحات النجادية حول محرقة «أوشفيتز» وانتفاء وقوعها، وأخرى لمرشد الثورة الأعلى بضرورة زوال إسرائيل من الوجود لأنها غدة سرطانية، تدعو إلى الشك بصدقية مطلقيها. فالأصداء الإيجابية التي تجنيها إسرائيل من خلال التضامن العالمي الواسع معها جرّاء هذا النوع من التصريحات، هي أكبر دليل على المفعول العكسي لهذه التصريحات، وعلى تقاطعات غير منظورة بين مصدر التصريح والمستهدف منه، وتدفع القضية الفلسطينية وحدها ثمنه الباهظ.
الجهد الإستثنائي الذي تسعى إيران من خلاله إلى شطب منظمة التحرير من معادلة القضية الفلسطينية له أبعاد خطيرة وكارثية على الشعب الفلسطيني الذي دفع دماءً غزيرة وناضل عشرات السنين من أجل تكريس هذا الحق وهو الإعتراف بالمنظمة كممثل شرعي وحيد بما تضم من تيارات واتجاهات تمثل كل شرائح الشعب الفلسطيني ويعكس الرغبة الإيرانية بالإمساك الأحادي بهذه الورقة بغية التوظيف المفرط له في غير مكان وزمان.
لقد فتح الغزوان الأميركيان لأفغانستان والعراق شهية إيران لاندفاعة قوية في المنطقة بعدما مهّد الغزوان المذكوران الأرض لها، وأزالا من أمامها جداري طالبان وصدام. فانطلقت سريعاً في بلاد ما بين النهرين المفتوحة أمامها أرضاً وتيارات سياسية لها ارتباطاتها القوية معها كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والتيار الصدري وحزب الدعوة، ولعبت بالتعاون مع حليفها السوري على معادلتي الدولة والمقاومة العراقيتين، ففيما تولّت هي أمر الأولى تولّت حليفتها أمر الثانية مترجمةً بذلك على الأرض نظرية الفوضى الخلاّقة التي رفعت شعارها الإدارة الأميركية وطبّقتها إيران في المنطقة.
ثمة تساؤلات عن حجم الأسهم التي تمتلكها إيران في «شركة القاعدة» للمقاولات والتعهدات الإرهابية. فحلول سعد أسامة بن لادن على رأس «مجموعة قندهار» ضيفاً على الأراضي الإيرانية منذ الغزو الأميركي لأفغانستان إلى اليوم يطرح أسئلة عن علاقة إيران بالشركة المذكورة وطبيعتها.
مشهد الإنقسام العربي الذي تجسّده فضائيتا «الجزيرة» و«العربية» يشكّل صورة رمزيّة للإنقسام السياسي الكبير الذي يلفّ العالم العربي والذي لم يكن وضعه يوماً بأفضل حال، ويعكس حجم "الدفرسوار" الإيراني داخل بلدانه وحجم حق الفيتو الذي صار يملكه داخل العمل الرسمي العربي ومؤسساته المترهلة وعلى رأسها الجامعة العربية. وشكّلت صور القمم العربية المتشرذمة إبان العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة بين قطر التي حضرها أحمدي نجاد، والرياض، إحدى تجلياتها.
إنّ فائض القوة الذي يطفح به الإناء الإيراني ويتسرب إلى كل مناطق العالم العربي مهدداً أمنه واستقراره فارضاً نفسه لاعباً قوياً في منطقة تعني الكثير للعالم بما تحتويه من منابع للنفط، ناهيك عن وجود إسرائيل، يدحض نظرية مساعدة إيران للشعوب المستضعفة ويؤكد أنها، كسائر الدول، ليست جمعية خيرية وأن مصالحها وأحلامها بالتوسع والسيطرة فوق كل اعتبار.
إنّ دوراً مهماً وعقلانياً لإيران كدولة كبرى لها حيثيتها في المنطقة أمر مشروع. لكن، ليس على حساب تفتيت العالم العربي وشرذمته وجعل أقلياته وخصوصاً الشيعية منها قنابل موقوتة قابلة للإنفجار في أية لحظة، مغلِّبة انتماءها الديني والمذهبي على الوطني والقومي، مع التأكيد على حقوق هذه الأقليات بالمساواة والمواطنية وغيرها من الحقوق المشروعة المهدورة في أوطانها. فالدور الإيراني المتسلّح بنهج ولي الفقيه والمتنامي بتمدد ولايات الفقيه الإيرانية المتحدة، يحمل مخاطر كبيرة في منطقة يشكّل العرب السنّة السواد الأعظم منها، ويطرح هواجس وقلقاً حول الدور والأهداف التي تنوي إيران الإضطلاع بها، وحول سياسة حافة الهاوية التي تمارسها إيران والخوف من أن تنحدر المنطقة برمتها إليها.
مقلا عن موقع "الشفاف"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق