الأحد، 28 يونيو 2009

التململ مـــن الثيوقراطية

فريد زكريا
نحن نشهد سقوط الثيوقراطية الإسلامية في إيران. لا أعني بذلك أن النظام الإيراني على وشك السقوط، مع أن هذا قد يكون صحيحا ــ وأنا آمل أن يسقط بالطبع ــ لكن الأنظمة القمعية يمكن أن تبقى قائمة مدة طويلة. نحن نشهد فشل إيديولوجية تشكل أساس الحكومة الإيرانية. مؤسس النظام، آية الله روح الله الخميني، عرض تفسيره الخاص للإسلام السياسي في سلسلة من المحاضرات عام 1970. في تفسيره هذا للإسلام الشيعي، يُفترض أن الفقهاء الإسلاميين يتمتعون بسلطة إلهية ليحكموا ويكونوا أوصياء على المجتمع وأصحاب القرار النهائي ليس فقط في المسائل الأخلاقية بل السياسية أيضا. عندما أسس الخميني جمهورية إيران الإسلامية، كان مبدأ ولاية الفقيه هذا، أي حكم الفقيه الأعلى، في صلبها. الأسبوع الماضي، منيت هذه الإيديولوجية بضربة فتاكة.
عندما أعلن المرشد الأعلى الحالي، آية الله علي خامنئي، أن فوز أحمدي نجاد في الانتخابات هو «حكم إلهي»، كان يستعمل السلاح الأساسي في ترسانة ولاية الفقيه، ألا وهو الموافقة الإلهية. لكن ملايين الإيرانيين لم يقتنعوا، وكانوا متأكدين من أن أصواتهم ــ وهي أحد الحقوق العلمانية الأساسية المسموح بها في ظل النظام الديني الإيراني ــ سرقت منهم.
وسرعان ما اضطر خامنئي إلى القبول بضرورة إجراء تحقيق في الانتخابات. مجلس صيانة الدستور، وهو الهيئة الدستورية العليا في إيران، وعد بإجراء تحقيقات ولقاء المرشحين وإعادة فرز بعض الأصوات. أدرك خامنئي أن وجود النظام على المحك وقد اتخذ موقفا متصلبا الآن، لكن هذا لن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه. لقد أصبح واضحا أن الشرعية في إيران اليوم ليست متأتية من سلطة إلهية بل من الإرادة الشعبية. طوال ثلاثة عقود، مارس النظام الإيراني سلطته من خلال مكانته الدينية، مقصيا الذين يتحدونه. لكن هذا لم يعد مجديا, والملالي يعرفون ذلك. بالنسبة إلى ملايين الناس، وربما معظم الإيرانيين، فإن النظام خسر شرعيته.

لماذا يحدث هذا؟ لقد حصلت تظاهرات في إيران من قبل، لكنها كانت دائما تضع الشارع في مواجهة الدولة، وكان جميع رجال الدين يقفون إلى جانب الدولة. عندما كان الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي في السلطة، كان ينظر في إمكانية دعم الشارع بعد حصول أعمال شغب طلابية عامي 1999 و2003، لكنه في النهاية قرر المحافظة على دعمه للنظام القائم.
الشارع والدولة يتواجهان من جديد, لكن الفرق هذه المرة هو أن رجال الدين منقسمون. لقد دعم خاتمي بشكل علني المرشح المنافس مير حسين موسوي، وأيده أيضا آية الله العظمى الإصلاحي حسين علي منتظري. وحتى رئيس مجلس النواب علي لاريجاني، وهو ليس رجل دين لكن له علاقات عائلية وطيدة بأعلى مستويات الهرمية الدينية، عبر عن شكوكه بشأن الانتخابات. وفي الكواليس، يزعم أن الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني ــ وهو رئيس مجلس الخبراء، وهي هيئة دستورية مهمة أخرى ــ يشن حملة ضد أحمدي نجاد وربما أيضا ضد المرشد الأعلى. إذا شكك بعض كبار رجال الدين في «الحكم الإلهي» الذي تحدث عنه خامنئي، وجادلوا بأن مجلس صيانة الدستور مخطئ، فسوف يشكل ذلك ضربة قاضية للمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه جمهورية إيران الإسلامية. الأمر شبيه بقول قائد سوفييتي كبير عام 1980 إن كارل ماركس ليس المرشد المناسب للسياسات الاقتصادية.
قد تبقى الجمهورية الإسلامية قائمة لكنها ستكون مجردة من شرعيتها. بإمكان النظام أن ينتصر في هذا النزاع» وفي الحقيقة، لعل هذه النتيجة الأكثر ترجيحا. لكنه سيتمكن من ذلك من خلال اللجوء إلى حلول جذرية, حظر كل التظاهرات، واعتقال الطلاب، ومعاقبة كبار القادة، وشل المجتمع المدني. مهما كانت النتيجة ــ القمع أو استيعاب المعارضة ــ من الواضح أن الملايين في إيران لم يعودوا مؤمنين بالإيديولوجية التي يحكم النظام على أساسها.
وإذا تمسك النظام بالسلطة، فإنه سيفعل ذلك من خلال التهويل العسكري فقط، مثلما فعل الاتحاد السوفييتي في أواخر حقبة بريجنيف. يقول المفكر الإيراني المولد رضا أصلان:
«ستتحول إيران إلى ما يشبه مصر»، أي إن النظام سيعتمد على الأسلحة بدلا من الأفكار للحفاظ على تماسكه خلف واجهة سياسية.
لقد شهدت الجمهورية الإسلامية انحسار شرعيتها على مر العقد الماضي. أولا أتى خاتمي، المصلح الذي حقق فوزا ساحقا في الانتخابات وبدأ بإجراء بعض الإصلاحات قبل أن يقوض عمله مجلس صيانة الدستور. هذه التجربة جعلت الملالي يقررون أن عليهم إعادة النظر في العنصر الديموقراطي الوحيد الذي سمحوا به في إيران, أي الانتخابات الحرة نوعا ما.
الوسيلة التي اتبعها النظام لفرض سيطرته كانت انتقاء المرشحين المقبولين، وتأييد واحد أو اثنين منهم، والسماح بتصويت سري حقيقي. لكن في الانتخابات البرلمانية عام 2004، قرر مجلس صيانة الدستور أن الوسائل العادية لن تؤدي إلى نتائج مقبولة. فحظر ترشيح 3.000 شخص، بمن فيهم الكثير من النواب آنذاك. ولأن الدعم الشعبي كان غير مؤكد هذه المرة، اتخذ النظام خطوة إضافية، معلنا نتائج الانتخابات في غضون ساعتين وفوز أحمدي نجاد بفارق كبير يحول دون الطعن بالنتائج. وقد كشف خامنئي عن هذه الاستراتيجية في خطبته يوم الجمعة الماضي، سائلا: «فارق بـ11 مليون صوت؟ كيف يمكن أن يكون هناك تلاعب في الأصوات؟»

كيف يجدر بالولايات المتحدة التعامل مع الوضع في إيران؟ أولا، تجدر الإشارة إلى أن واشنطن تتعامل معه بالفعل. من خلال مد يده إلى إيران، بشكل علني ومتكرر، صعّب الرئيس باراك أوباما إلى حد كبير على النظام الإيراني الادعاء بأنه يحارب أمريكا عدائية عازمة على مهاجمة إيران. قبل بضع سنوات، كان هذا ادعاء معقولا جدا. فقد أعلن الرئيس جورج دبليو بوش بشكل متكرر أن النظام الإيراني عدو لدود وأن إيران جزء من محور الشر وأنه يدرس احتمال شن هجوم عسكري على البلد. لكن أوباما اتبع مسارا معاكسا، موضحا أنه يكن المودة للشعب الإيراني وأنه سيتفاوض مع أي قادة يختارونهم لتمثيلهم. في خطاب تنصيبه، وخطاب التهنئة بحلول رأس السنة الفارسية وخطابه في القاهرة، بذل جهودا حثيثة لإظهار احترامه وصداقته للإيرانيين. لهذا السبب كانت ردة فعل خامنئي غاضبة جدا في معظم الخطاب الذي رد فيه على رسالة التهنئة بحلول رأس السنة الجديدة. فهي تقوض صورة الشيطان الأكبر التي غالبا ما يرسمها في خطبه. (طبعا، كونه براغماتيا، ترك الباب مفتوحا للتفاوض مع الولايات المتحدة).
في خطبته يوم الجمعة، قال خامنئي إن الولايات المتحدة وإسرائيل وخصوصا بريطانيا تقف وراء التظاهرات التي هزت طهران، وهو اتهام سيبدو سخيفا بالتأكيد بالنسبة إلى الكثير من الإيرانيين. لكن ليس كلهم: فالشكوك بتدخل قوى خارجية مترسخة حتى في عقول المواطنين الأكثر تقبلا للغرب في إيران. وردة الفعل الحذرة التي أبداها أوباما تصعب على خامنئي وأحمدي نجاد استغلال المشاعر القومية.
المحافظون الجدد يستنكرون حذر أوباما. بول وولفويتز، الذي كان نائب وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، شبه ردة فعل البيت الأبيض بتردد رونالد ريغان عندما عمت التظاهرات شوارع الفلبين تنديدا بنظام فرديناند ماركوس. لكن هذا التشبيه في غير محله.
فماركوس كان مدعوما من الولايات المتحدة, وكان في السلطة بفضلها. كان المتظاهرون يطالبون ريغان بسحب هذا الدعم وترك الأمور تأخذ مجراها. إيران، من جهة أخرى، بلد مستقل ومتشدد قوميا لديه تاريخ طويل من التدخل البريطاني والأمريكي في شؤونه السياسية واقتصاده. فقد استولت بريطانيا على قطاع النفط الإيراني عام 1901» وكانت الولايات المتحدة وراء انقلاب عام 1953. الانتقاد الأساسي الذي كان يوجه إلى شاه إيران هو أنه كان دمية في يد أمريكا. كما في الكثير من البلدان المماثلة ــ الهند مثال آخر ــ فإن هذه المشاعر المناهضة للإمبريالية قوية جدا. الإيرانيون يعرفون أن هذه المعركة معركتهم، ويريدونها أن تبقى كذلك.

من الأصح تشبيه ردة فعل أوباما بردة فعل جورج بوش الأب الحذرة عندما بدأت التصدعات تظهر في الإمبراطورية السوفييتية عام 1989. آنذاك، كما يحصل الآن مع أوباما، كان الكثير من المحافظين الجدد ساخطين على بوش لأنه لم يدعم بحزم أكبر أولئك الذين يحاولون إطاحة الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. لكن بوش كان قلقا من هشاشة الوضع. فتلك الأنظمة كانت قادرة على قمع هؤلاء المتظاهرين بسهولة، وكان بإمكان الاتحاد السوفييتي إرسال دباباته إليهم. وإعطاء الشيوعيين حججا للرد بعنف لم يكن مفيدا لأحد، لا سيما المتظاهرين.
كانت مقاربة بوش صحيحة بشكل عام وقد أثبت التاريخ ذلك. لكنني أتمنى لو أن أوباما لم يدل بتصريح واحد. عند مناقشته الأحداث الجارية في إيران، قال إنه ليس هناك فروق مهمة بين أحمدي نجاد وموسوي، لأن كليهما سيدافع عن الخيارات الأساسية للجمهورية الإسلامية في السياسة الخارجية، بدءا من طموحاتها النووية وصولا إلى دعمها لمنظمات مثل حماس وحزب اللـه. وجهة النظر هذه عبر عنها في الحقيقة بعض المحافظين الجدد الذين يفضلون بصراحة فوز أحمدي نجاد: فالعدو الأكثر تهديدا سيسلط الأضواء بشكل أوضح على المخاطر التي يشكلها هذا النظام على بقية العالم. لكن حتى لو كان هذا صحيحا قبل الانتخابات، فهو لم يعد صحيحا الآن. لقد أصبح موسوي رمزا للتغيير وللمشاعر المناهضة لأحمدي نجاد وحتى للطموحات إلى تغيير النظام. إنه يعي ذلك بوضوح وهو يرحب بالدعم. وانتصاره سيعني نشوء إيران مختلفة.
حتى خلال حملته الانتخابية، ما الذي قاله موسوي وكان له الوقع الأكبر بين الناخبين؟ إنه سيدير الاقتصاد بشكل أفضل؟ وإن الفساد خرج عن السيطرة؟ ربما، لكن كل المرشحين المعارضين يقولون ذلك، ولم يكن لدى موسوي أفكار جديدة كثيرة أو سجل حديث مثير للإعجاب لجعل هذه الادعاءات جديرة بالثقة. المسألة التي شدد عليها موسوي بشكل متكرر هي أن أحمدي نجاد عزل البلد واعتمد سياسة خارجية عدائية وحول إيران بلا داع إلى دولة منبوذة. بالنسبة إلى الكثير من مؤيديه، كانت هذه المسألة الأهم: فهم يتوقون إلى المزيد من الانفتاح على العالم. رفض أحمدي نجاد المتعمد للغرب وكلامه المستمر عن انهيار أمريكا المزعوم كانا بمنزلة إهانة لطموحاتهم بأن يصبحوا جزءا من المجتمع العالمي من جديد.
يمكن للرئيس أوباما أن ينظر إلى هذه الأحداث ويقول ببساطة: «لدى إيران تاريخ طويل تفتخر به كدولة منفتحة على العالم وليس كدولة منعزلة عنه. لطالما أراد العالم مد يده إلى الشعب الإيراني. عند مراقبة الانتخابات والتظاهرات المدهشة والسلمية التي تحصل، يتضح أن الشعب الإيراني يريد أيضا التقرب من العالم. نحن نسمع أصواتكم ونتمنى لكم الخير». بهذه الطريقة الحذرة، يمكن لأوباما أن يجعل القومية الإيرانية ترتد على النظام.

لكن المسألة الحقيقية هنا لا تتمحور حول بضع كلمات من أوباما بل حول المجريات على الأرض في إيران. فترنح الجمهورية الإسلامية سيكون له تبعات في كل أنحاء العالم الإسلامي. مع أن إيران شيعية ومعظم العالم الإسلامي سني، فإن تسلم الخميني الحكم شكل صدمة لكل البلدان الإسلامية، وكان دلالة على أن التطرف الإسلامي أصبح قوة يجب عدم الاستهانة بها. بعض البلدان، مثل السعودية، حاولت استيعاب هذه القوة. وغيرها مثل مصر قمعتها بعنف. لكن إيران كانت قد أصبحت رمزا لتنامي نفوذ الإسلام السياسي في كل مكان. إذا انهار النظام الإيراني الآن، فسيكون المسار الذي دام 30 عاما قد انقلب.
عن مجلة "نيوزويك"




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق