الجمعة، 3 يوليو 2009

المرشـــــــــــــــــــــد الأعلـــــــــــــــــــــــى


"لن يردوا على تحيتك". هكذا تبدأ قصيدة يعرفها المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي جيدا، وكان يحبها من قبل. وتتابع: "لن يرفع أحد رأسه ليجيب عن سؤال أو لرؤية صديق". كُتبَت القصيدة في زمن الشاه في الخمسينات من القرن الماضي، عندما كان خامنئي رجل دين شيعيا شابا ومثاليا يتقاسم مع شاعرها المسرف في الشراب شعورا بالنفور الناجم عن الجو الضاغط وبالإحباط العميق. قصيدة Winter (شتاء) لمهدي أخوان ثالث، هي أقوى تعبير مجازي عن القمع, المفروض من الخـارج إنمـا المستبطـن داخليـا إلـى حـد كبيـر: النفَس الذي يخرج من صدركي تحول غيمة داكنة ويقف مثل جدار أمام عينيك الآن في صيف 2009، في القيظ الشديد لشوارع طهران الخانقة، خامنئي نفسه هو الذي بات يمثل لملايين الإيرانيين تلك الوطأة الباردة والثقيلة للسلطة.
ما يحصل في إيران ليس مجرد مواجهة بين الاستبداد والحرية. فلم تؤد موجة تلو الأخرى من الاحتجاجات إلى إطاحة النظام، ولا هي سعت إلى ذلك. لكن بعد 30 عاما من قيام الثورة الإسلامية بإطاحة الشاه، أعادت الاحتجاجات صوغ المشهد السياسي في البلاد. لقد قوّضت لا بل دمرت مصداقية القيادة الدينية في إيران, ناهيك عن عصمتها عن الخطأ. وإذا كانت قد نجحت في ذلك، فالسبب إلى حد كبير هو هوية المرشد الروحي.
على غرار كل الثورات، إنه صراع معقد للإرادات والرؤى، للطموحات والأحقاد، بوجود محتجين وشهداء في الشوارع ومتآمرين مكيافيليين خلف الأبواب المغلقة. لقد شاهدتم أشرطة الفيديو غير النقية المصورة بالهواتف الخلوية: مئات الآلاف من الأشخاص الذين يسيرون بوقار وصمت في شوارع طهران من دون أن يتعبوا، عصابات الدراجات النارية المليشياوية التي تلوح بالهراوات، أعمال العنف التي تندلع من حين إلى آخر ضد القوات والمباني الحكومية. لقد رأيتم، ربما أكثر مما ترغبون في ذلك، العينين الغائرتين والتكشيرة المقلقة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي تسببت إعادة انتخابه في فوز ساحق مزعوم، باندلاع الأزمة. ووسط الحشود، رأيتم أيضا الوجه غير المألوف نسبيا للمتحدي، مير حسين موسوي، الذي أصبح شخصيا وعلى الملصقات رمزا للأمل. لكن في هذا التدفق الحركي والملون للصور، غالبا ما بدا ظهور خامنئي على التلفزيون الرسمي وكأنه فواصل جامدة.
بالنسبة إلى الغربيين الذين يتذكرون المرشد الأعلى الأول، آية الله روح الله الخميني ذا الخطاب الناري، يمكن أن يبدو خامنئي خلفا ضعيفا. فعلى التلفزيون، لا يتمتع بأي جاذبية تقريبا، واعتبره البعض في البداية مرشدا عرضيا يملأ المنصب بانتظار أن يتولاه من هو أفضل منه. حافظ طوال عقدين على منصبه ليس من خلال قوة شخصيته أو حتى سلطته الدينية إنما عبر إرساء توازن بين الفصائل وإظهار نفسه بأنه فوق الشجار.
في الواقع، لم يكن يوما كذلك. ويشتكي النقاد من أنه في الأعوام الأربعة الماضية، تساهل مع أحمدي نجاد، الشخصية الأكثر إثارة للانقسام في البلاد، ودافع عنه، الأمر الذي لم يكن في مصلحته. يقول سياسي يعرف خامنئي منذ أكثر من 40 عاما: "على غرار أي شخص موجود في السلطة منذ وقت طويل، يحب خامنئي أن يكون محط تبجيل". وقد طلب هذا السياسي، شأنه في ذلك شأن معظم الإيرانيين، عدم الإفصاح عن هويته في معرض مناقشته لهذا الموضوع الأكثر حساسية في إيران. وأردف قائلا: "مدهش كم أن الإطراء يخدع أشخاصا كثيرين. هذا الرجل، أحمدي نجاد، يدمر نظام الجمهورية الإسلامية بكامله الذي يشمل السيد خامنئي. لكن السيد خامنئي يدعمه لأنه يجلس مثل فأر أمامه ويقبل قدميه".
على مر السنين، عمد خامنئي أيضا بهدف ترسيخ قاعدة سلطته، إلى تطوير علاقات وثيقة مع الجيش والأجهزة الأمنية، حسبما يتيح له الدستور الإيراني. فقد بنى بيروقراطية كبيرة داخل الحكومة وحول بيت المرشد. غير أن هذا كله جعله غير مستعد للمراحل الأولى لهذه الأزمة: ضعفه في الشارع الذي خرج بأعداد ضخمة ضد أحمدي نجاد بعد الانتخابات التي يُزعَم بأنها مزورة، وداخل الحوزات الدينية حيث تعرضت سلطته للتحدي من رجال دين منقسمين تستمر خصوماتهم العميقة والمعقدة منذ عقود.
في صلاة الجمعة في جامعة طهران، بعد أسبوع استثنائي من توجه الإيرانيين إلى صناديق الاقتراع، طلب خامنئي إلى أحمدي نجاد وموسوي، إلى جانب المرشحَين الآخرين ــ رئيس الحرس الثوري السابق محسن رضائي ورئيس مجلس الشورى السابق مهدي كروبي ــ المشاركة في الصلاة والقبول بحكمه. ودعي المراسلون الذين كانوا قد تلقوا أوامر بعدم الخروج من مكاتبهم في وقت سابق، إلى حضور الصلاة. وكان الهدف بلا شك إظهار أن النظام لايزال صلبا. (يقول السير ريتشارد دالتون، الذي كان سفير بريطانيا لدى إيران في مطلع العقد: "يعرفون أنهم إذا لم يقفوا معا، فسوف يقضى عليهم فردا فردا"). في كل الأزمات السابقة، كانت هناك لحظة مماثلة، ووقف نادي فتيان الثورة معا. لكن هذه المرة، الأمور مختلفة.
لم يأت موسوي إلى الصلاة. وكذلك كروبي. وقد نظر خامنئي إلى أحمدي نجاد الجالس مطيعا تحته في الصف الأول من المؤمنين، ووجه تحذيرا إلى من ليسوا مخلصين بالدرجة نفسها. قال إنه لن يتراجع. وأضاف أنه لم يكن هناك تزوير في الانتخابات، وحتى لو كان هناك من تزوير، فهو لا يفسر فارق الـ11 مليون صوت بين أحمدي نجاد وخصمه. واعتبر أن التهجم على النتائج هو تهجم على الثورة. وعبر تنديد خامنئي بالاحتجاجات، فتح الطريق أمام القمع من القوات الأمنية الذي عرف الجميع أنه قد يحصل وتخوفوا منه. غير أنه حمل المسؤولية للمحتجين عندما قال: "إذا وقع أي حمام دماء، فسوف يتحمل قادة الاحتجاجات المسؤولية المباشرة".
في الواقع، شكّل الخطاب تتويجا لحياة المرشد الأعلى، بدءا من التلميح إلى أن عدم إطاعته هو أشبه بخيانة النبي محمد، وانتهاء بتوجيه خامنئي نظره نحو الهواء من حوله وكأنه يخاطب مباشرة الإمام الـ12 الذي اختفى قبل 11 قرنا. وقد ذرف المؤمنون دموعا طقوسيـة. لم يرس المرشد الأعلى، 69 عاما، الذي تحدث لأكثر من 90 دقيقة، القانون فحسب، كما يراه هو، بل وضع رؤية عن عالم تكون فيه إيران فريدة وفخورة ونافذة ويحدق بها الأعداء، ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل.
لن تكون هناك ثورة "مخملية" جديدة في إيران، سواء كانت محلية المنشأ أو ممولة من الخارج. وليس لدى الأجانب ما يعلمونه لإيران. يقول مؤيد متفان للمرشد الأعلى، من الواضح أن العرض فاجأه: "كانت لحظة الخميني. كان قويا ولا يهاب شيئا". حتى مؤيدو موسوي بدوا متفاجئين، فقد قال أحدهم: "ندخل حقبة جديدة".لكن على الرغم من كل الدراما المتقنة والسعي إلى الظهور بمظهر الضحية في الخطاب، فإن خامنئي هو الذي سبب جزءا كبيرا من الأزمة لنفسه. يقول حليف سابق: "هذه حالة تقليدية عن عمى السلطة. فالسيد خامنئي هو حقا رجل ذكي وحاذق ومثقف. حتى إنه معتدل. لكن تنسى كل تلك الصفات الإيجابية عندما يتعلق الأمر بسلطته الخاصة".
بحسب أشخاص يعرفونه جيدا، يحلم خامنئي بإنشاء خلافة إسلامية حيث تكون الحياة أكثر عدلا وإنصافا لشعب إيران كافة. غير أن الرجل الذي اختاره لتحويل ذلك الحلم حقيقة، أي الرئيس أحمدي نجاد، ليس مثاليا بقدر ما هو شعبوي يخدم مصالحه الذاتية. ويقول مساعد سابق لخامنئي إن تركيز المرشد المريض على هدفه اليوتوبي جعله ضيق الرؤية، بحيث إنه يغفل أحيانا عن حقائق بلاده الحاضرة والتطلعات التي بدأت تظهر لـدى شعـب شـاب ومثقـف ويـزداد تمدنا. إنهم يعتبرون أحمدي نجاد مصدر إحراج، لا بل أسوأ من ذلك، استفزازيا قد يجر البلد إلى مواجهات مكلفة وعقيمة مـع باقـي العالـم.
ربط خامنئي مرارا وتكرارا خلال العام الماضي، وخلافا لنصائح الكثير من أنصاره، مصيره بمصير أحمدي نجاد. ووفقا للصحافي في Rooz Online، حسين باستاني، الذي يعيش الآن في فرنسا، التقى المرشد الأعلى في أغسطس الماضي مع حكومة أحمدي نجاد، وأغدق المدائح على الرئيس بعبارات واثقة. قال إن أحمدي نجاد لم يعتذر عن تصرفات إيران أو يتخذ موقفا دفاعيا، بل تولى موقع الهجوم مما يجعله أفضل من الرئيسين اللذين سبقاه.
قبل نحو شهر من الانتخابات، قال خامنئي صراحة في رحلة عبر المناطق الكردية في البلاد، إنه يفضل المرشح الذي يواجه القوى العظمى ويعيش ببساطة ولا يهاب شيئا. لم يحدد أحمدي نجاد بالاسم، لكن ما قاله كان أشبه باستعمال حجج من حملة هذا الأخير. يقول سياسي إصلاحي كان قريبا من خامنئي في السابق: "منذ ذلك الوقت، لم تعد الانتخابات تقتصر على أحمدي نجاد وموسوي، بل تحولت استفتاء حول شرعية حكم السيد خامنئي. هو تسبب بالوضع الذي نحن فيه الآن".تغذي الضغوط من الشارع التيارات الخائنة المتقاطعة داخل النظام، لكن هذه التيارات تعود إلى ما قبل ولادة الكثير من المتظاهرين الحاليين.
تظهر صورة قديمة لخامنئي عندما كان طالب دين، شابا غير ملتح يعتمر عمامة ويضع نظارة سميكة منذ ذلك الوقت» وخلف هذه النظارة نرى في تعابير عينيه فتى ينظر نحو أعماقه سارحا في أفكاره. وتكشف صورة لزميله في المعهد الديني، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، تعود إلى الحقبة نفسها في الخمسينات، عن أنه خلف العمامة البيضاء، هناك شخصية من الطراز الأول يمكن أن تترشح في سياق أمريكي، لرئاسة الصف. التزم الشابان صنع الثورة كمناصرَين لآية الله الخميني في قم قبل نفيه، وناشطين داخل البلاد ــ وداخل سجونها في معظم الأحيان ــ بعد إرغام الخميني على الرحيل. واستمرت العلاقات التي تكوّنت بين رجلي الدين الشابين في ذلك الوقت في صياغة السياسة الإيرانية منذ انتصار ثورة الخميني عام 1979. فمن خلال الترسيخ الدموي للسلطة وحرب الأعوام الثمانية ضد العراق، عززا موقعيهما تارة عن طريق التنافس وطورا عن طريق دعم أحدهما الآخر. فالخميني المتقدم في السن استمر بكل معنى الكلمة في تولي منصب المرشد الأعلى الذي يسعى الجميع للحصول على موافقته. وكان يكافئ الولاء له. قال الإمام: "ستبقى الثورة حية ما دام السيد هاشمي [رفسنجاني] حيا. وقد ربيت السيد خامنئي بنفسي".
خلال سنوات الحرب، أصبح رفسنجاني رئيس المجلس، وتولى مفكر يساري شاب يُدعى مير حسين موسوي رئاسة الحكومة. كان خامنئي رئيسا، لكن غالبا ما كانت هناك خلافات في وجهات النظر بينه وبين موسوي، وكان الأخير يربح في معظم الأحيان، مما يثير روع خامنئي.ثم انتهت الحرب عام 1988، وعام 1989 توفي الخميني من دون خلف واضح له في منصب المرشد الأعلى. كان يُفترَض أن يتولى المنصب باحث كبير في الإسلام كما كان الخميني، آية الله واسع العلم يعتبره كل رجال الدين الشيعة مرجعا أو مصدرا جديرا بأن يقتدى به. غير أن رجل الدين الأكثر تأهلا الذي اعتُبًر لسنوات بأنه وريث الخميني، آية الله العظمى حسين علي منتظري، كان قد سقط من الحظوة.
ففي العام السابق، عندما قُتًل آلاف السجناء السياسيين في سجن إفين، ندد منتظري جهارا بالأمر. (التزم رفسنجاني وموسوي وخامنئي الصمت). عاقب الخميني المنشق واصفا إياه بـ"الساذج" وبأنه "ليس رجل دولة قادرا على إدارة البلاد".كان قرار اختيار المرشد الأعلى الجديد في يد مجموعة من رجال الدين تُعرَف بمجلس الخبراء. وقد باشر رفسنجاني العمل على إقناعهم مستخدما كل مهاراته السياسية اللافتة من أجل الحصول على تعيين رفيقه القديم في المنصب. لا يهم أن خامنئي لم يكن قد أصبح آية الله بعد، ولا مرجعا بالتأكيد.
يقول مصدر اطلع على النقاشات لكنه طلب عدم الكشف عن هويته: "لولا دعم رفنسجاني، لما أصبح السيد خامنئي مرشدا أعلى. شهدت كيف عمل ليل نهار لإقناع أعضاء مجلس الخبراء ورجال دين كبار آخرين بدعم السيد خامنئي. وعلى الرغم من أن السيد خامنئي لم يكن مؤهلا من الناحية الدينية لتولي المنصب، اتفق الملالي الكبار في الرأي مع رفسنجاني لأنهم كانوا يثقون به. من العدل القول إن السيد خامنئي يدين بمنصبه لرفسنجاني".من جهته، أصبح رفسنجاني رئيسا ودفع باتجاه إقرار دستور جديد تخلص من منصب رئيس الوزراء المنافس لمنصب الرئاسة. (تقاعد موسوي من السياسة إلى حين عودته هذا العام). في الوقت نفسه، رسخ رفسنجاني القاعدة الدستورية التي تمنح المرشد الأعلى القرار النهائي في كل المسائل الكبرى. غير أن الحظـوات يمكن أن تكون مزعجة, ولاسيما لمن يشعرون أنها قد تؤثر سلبا في سلطتهم.
كـان هنـاك افتـراض واسـع فـي أوسـاط المحلليـن الإيرانيين عام 1989 بأن رفسنجاني عمل على إيصال خامنئي إلى منصب المرشد الأعلى ظنـا منـه أن بإمكانـه السيطـرة عليـه. وعلـى الأرجـح أن خامنئـي اشتبـه فـي الأمـر عينـه.عندما تولى الرجلان المنصبين الأعلى في البلاد، أصبح الاختلاف في رؤيتيهما واضحا للعيان. كانت قاعدة سلطة رفسنجاني تتركز في أوساط طبقات التجار» "البازار" كما يسمونها في إيــران. ربمــا لم يقـل، على غرار إحدى الشخصيات في وول ستريت، إن "الجشع جيد"، لكن غالبا ما أعطى انطباعا بأن هذا هو رأيه. وضع النمو والتنمية الاقتصاديين في قلب سياساته، وأصبحت عائلتــه فاحشــة الثــراء.أما خامنئي فقد أراد استقطاب الجماهير الإيرانية. فمنذ أيامه الأولى حيث كان يغوص في الكتب الدينية والقصائد، أحب أن يتماهى مع "المظلــــوميــــن"، وبــنـــــــى قاعدة الدعم له في تلك المؤسسات ــ رجال الدين والجيش والبيروقراطية ــ حيث يسمح الولاء والطاعة بالخروج من الفقر.
منذ سنوات الحرب في الثمانينات من القرن الماضي، بنى أيضا علاقات وثيقة مع أجهزة الاستخبارات، لأنه ربما أقنع نفسه، كما فعل عدد كبير من الثوريين، بأن الطريقة الفضلى لمنع الظلم هي إلغاء الأعداء. في مقال نُشًر العام الماضي في مجلة فورين أفيرز، زعم المعارض الإيراني أكبر غانجي أنه في لقاء خامنئي الأول مع قادة الحكومة بعد توليه منصب المرشد الأعلى عام 1989، عرض "نظرية رعب" حددت مقاربته للمسائل الأمنية. ونقل عنه قوله: "معظم الناس في الدولة صامتون"، لكن "تستطيع مجموعة من الأشخاص الناكرين لذواتهم أن تجعل الدولة تعاني عن طريق استعمال الرعب".
لكن حتى لو كان هذا صحيحا، فقد كان هناك تعقيد. قدمت إيران نفسها بأنها ديموقراطية إسلامية، ونعم، مقارنة بعراق صدام حسين أو الكثير من الديكتاتوريات الأخرى في الشرق الأوسط، كانت معقلا للتعبير الحر نسبيا. كان ناخبوها يُمنَحون خيارات محدودة ومدروسة بعناية، لكن كان هناك بعض التنافس الحقيقي. وقد أظهرت صناديق الاقتراع في التسعينات من القرن الماضي أن القيادة الهرمة ومؤسساتها المتشددة باتت صماء جدا عن التغييرات التي تحصل في المجتمع الإيراني. فقد عرضت المحطات التليفزيونية الفضائية التي كانت غير قانونية إنما رائجة، رؤية عن عالم أوسع بكثير. ثم جاء الإنترنت. وسرعان ما ازدادت المطالبات بحريات وفرص أكبر في أوساط السكان الذين كانوا في معظمهم دون سن الـ30 ومثقفين أكثر فأكثر.عام 1997، عندما حقق المرشح الإصلاحي للرئاسة، محمد خاتمي، الذي اعتبر من سمحوا له بالترشح بأنه لا يملك حظوظا كبيرة، فوزا بغالبية ساحقة، رأى المرشد الأعلى في الأمر تهديدا.
تعهد خاتمي بتحرير المجتمع وتعزيز المؤسسات المدنية الإيرانية، وبدا لبرهة من الزمن أن شتاء الخوف والقمع قد ولى. غير أن ربيع طهران لم يدم. أنهكت الضغوط المستمرة من خامنئي ــ وكذلك من رفسنجاني الذي عمل خلف الكواليس لحماية مصالحه الواسعة ــ الإصلاحيين وخفضت من مصداقياتهم. وهكذا عندما أعلن خاتمي ترشحه لولاية ثانية، كانت عيناه دامعتين بكل معنى الكلمة، وعلى الرغم من فوزه، عمل في مساحة سياسية أكثر تضييقا للخناق حوله حيث كان أنصاره يُقتَلون أو يُعتقلون أو يُرغمون على التوجه إلى المنفى.
في هذه الأثناء، بدأ المرشد الأعلى يستعين بابنه الثاني، مجتبى خامنئي، الذي أصبح بمنزلة عميل له ومنفذ لإرادته. ويعتقد البعض في بيت المرشد أن رجل الدين البالغ من العمر 40 عاما، قد يرث منصب والده ذات يوم. لكن في الوقت الراهن، أصبـح مجتبـى صلـة وصـل المرشد الأعلى الأساسية بالعالم الخارجي، ومفسر مـا يجـري فـي الشـارع. يقول حليف لرفسنجاني طلب عدم الإفصاح عن هويته: "اعتبر مجتبى أن الإصلاحيين كانوا يخونون والده خلال رئاسة خاتمي التي استمرت ثماني سنوات". فقد اعتُبًروا خطرين جدا لأن عددا كبيـرا منهم كانوا ناشطين في الانتفاضة الشعبية ضد الشاه وشاركوا في تنظيمها. كانوا يعرفون كيف يحركون الشارع. وبعد ولايتَي خاتمي، لم يرد مجتبى ولا والده أن يتولى الإصلاحيون السلطة من جديد.عام 2005، ترشح رفسنجاني للرئاسة سعيا منه لاستعادة المنصب الذي أرغم على التخلي عنه عام 1997 بسبب الحدود المفروضة على عدد الولايات الرئاسية. لكن بغض النظر عن الجاذبية الشعبية التي كان يتمتع بها من قبل، فقد خسر في أوساط الجماهير التي اعتبرت الحرس القديم فاسدا وبعيدا عن الواقع.
دعم خامنئي أحمدي نجاد, عمدة طهران الذي كان ابن عائلة من الطبقة العاملة، ومحاربا قديما في قوات البسيج والحرس الثوري ومستعدا لتقبيل قدمي المرشد الأعلى. وقد فاز أحمدي نجاد.في الأعوام الأربعة اللاحقة، استفادت إيران من البلايين التي وفرتها العوائد غير المتوقعة لأسعار النفط المرتفعة، فأطلقت من جديد برنامجها للتخصيب النووي، ومولت حركة حماس في سيطرتها على غزة، ودعمت حزب الله اللبناني وسلحته في حربه مع إسرائيل عام 2006. وفي الواقع، أسف أحمدي نجاد لأن إسرائيل موجودة على الخريطة. وقد ابتهج خامنئي بكلامه.
يقول مصدر استخباراتي أوروبي إنه في مطلع ولاية أحمدي نجاد الأولى، عرض الرجل الذي يقود المفاوضات النووية للبلاد، خيارات عدة حول الطريقة والسرعة اللتين يجب أن يسير بهما البرنامج النووي الإيراني. قال أحمدي نجاد إن هناك خيارا واحدا فقط: إنتاج صناعي شامل. وكان جواب خامنئي: أجل، هذا ما سنفعله.
في مطلع العام الماضي، قرر رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تقع في قلب المفاوضات أنه لوضع حد للبرنامج الإيراني أو احتوائه، فلا بد من لقاء خامنئي مباشرة. يقول محمد البرادعي إنه بينما كانا يحتسيان الشاي في منزل خامنئي، فوجئ بأن الأخير "على اطلاع كامل على ما يجري, ولا يثق على الإطلاق بالنوايا الغربية".
عندما قام الرئيس أوباما ببادرة حيال إيران من خلال تحيتها لمناسبة رأس السنة الفارسية في مارس، رد خامنئي بأنه إذا غيرت الولايات المتحدة سلوكها، يمكن أن تغير إيران سلوكها أيضا، تاركا الباب مفتوحا أمام مزيد من المحادثات. غير أن الوضع تعقّد الآن بسبب الانتخابات والأحداث التي تلتها. هل كانت الانتخابات مزوّرة في الواقع؟ يقول المسؤولون الأمريكيون في مجالسهم الخاصة إن هناك مؤشرات على حدوث تزوير، لكنهم يعتقدون أن أحمدي نجاد كان سيفوز في كل الأحوال. وربما اعتقد أنصار خامنئي ــ أو أخطأوا في الاعتقاد ــ أن الأرقام الساحقة سوف تساعد على تهميش كل خصومهم: بقايا الحركة الإصلاحية (رفسنجاني وحلفائه) المعارض آية الله منتظري وسواهم. وظنوا أنه ستتم تصفية الكثير من الحسابات القديمة، وسوف يصبح النظام أقوى بكثير عندما يدخل في مفاوضات مع الولايات المتحدة.
وغالبا ما يمارس القادة غير الآمنين المبالغة، ويصبحون في نهاية المطاف أقل أمانا.ربما كان ذلك ينطوي على سخرية شاعرية. قد يكون التهديد الداخلي الأكبر للنظام في سنواته الـ30 مًن صنع حكام شعروا أن عليهم سرقة انتخابات فازوا فيها أصلا.
كريستوفر ديكي "نيوزويك"

هناك تعليق واحد:

  1. كلهم ثورجية مؤيدين .. تحليل خاطئ .
    نحن نريد القضاء على هذا الخط وليس تلميع وجه الثورة بدماء جديدة .

    ردحذف